الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (8)
بقلم: دكتور/ عبدالله النفيسي - أستاذ العلوم السياسية
قيادة الحركة وتنزيل النصوص في غير منازلها
موضوع البيعة والطاعة
الحرس القديم والحاجة للتطوير القيادي:
من أخطر المعوقات على أداء الحركة الإسلامية هو تكوين قيادات تنظيماتها (العمري والفكري والمعلوماتي والنفسي). لقد تسنى لي لقاء عدد غير قليل من تلك القيادات بشتى راياتها ومسمياتها العربية والإسلامية، وبرغم كل التقدير والمحبة التي أحملها في نفسي لهم جميعا، إلا أن ذلك لا يمنعني من الجزم بأن عددا غير قليل منهم - ولأسباب موضوعية لا دخل لهم فيها - باتوا يشكلون معوقا من معوقات الدعوة الإسلامية من حيث لا يدرون ولأن معظم القيادات هي من الآباء المؤسسين ومن الحرس القديم فيتفرع عن هذه الحقيقة زمرة من الحقائق أولها الفجوة والهوة في المفاهيم والتصورات بين القيادة الراكدة والقاعدة الواعدة، ثانيا، إن مرارة التجارب التي مرت بها معظم القيادات (بعضها قضي في السجن عقدين من الزمان انعكست - هذه المرارة والسوداوية - على سير الدعوة الإسلامية، وهو أمر كان ينبغي تحاشيه ما أمكن ثالثها، إن الانقطاع في السجن لمدة عقدين من الزمان لا شك يؤثر سلبا على وعي المسجون لواقع المحيط به، وتطورات التشكيل الاجتماعي والسياسي في المجتمع الأوسع والحصيلة المعلوماتية لديه. فكيف يتسنى لمن يمر بظروف كهذه أن يخرج من السجن بعد هذه المدة الطويلة ليتسلم قيادة حركة شابة وحية ومتطلعة ومتواصلة مع المجتمع الأوسع؟
للمزيد انظر: غياب التفكير المنهجي
بالإضافة إلى هذا الإرهاق التاريخي البين الذي تعاني منه معظم القيادات التنظيمية الإسلامية - للأسباب الموضوعية التي ذكرناها - ارتبط بها أيضا ضرب من (الرمزية) التي غلفتها وغلفت اجتهاداتها وممارساتها بحيث جعلت أمر مساءلتها أو مؤاخذتها أو محاسبتها مستبعدا تماما. لقد حضرت عدة لقاءات (خاصة) مع عدد من القيادات أمثال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (في لندن (1969) رحمه الله والأستاذ عمر التلمساني (في فرانكفورت حوالي 1978) رحمه الله وغيرهما في وزنهما وفي أماكن وأزمان متعددة، غير أن (الرمزية) التي أحاطت بتلك القيادات والمجاهدات والابتلاءات التي مرت بها عطلت الجدوى من تلك اللقاءات وأغرقتها في بحر التعاطف والتغاضي والتناسي. وأعتقد أن (الهالة) التي تحيط بمعظم تلك القيادات لها ما يبررها، غير أنه من غير المفيد أن تحول أو تعيق الحوار الكاشف الصريح لأداء تلك القيادات أو التهيب من نقدها وتصحيحها وتقويمها، إن احترامهم ومحبتهم، بل الدعاء لهم لهي من حقوقهم الأدبية علينا، غير أنه في مقابل ذلك لا نبالغ إذا قررنا هنا بأن لنا حقوقا عليهم من ضمنها حق المناصحة والمشاورة والمعارضة والمحاورة وغير ذلك من الحقوق الأدبية التي تمتع بها الصحابة وهم في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذه (الرمزية) و(الهالة) التي تحيط بعدد غير قليل من القيادات (التنظيمية) الإسلامية زرعت في الأخيرة روحا غريبة من (البطريركية) التي تتعامل خلالها مع كل المنتمين كما يتعامل الأب مع أطفاله: تارة يعتمد على التشجيع والتوجيه وأخرى على التوبيخ والتأنيب والتسلط، لكن لم (يمنحهم) حرية محاورته ومناقشته دع عنك مناصحته أو الاعتراض على بعض آرائه ومواقفه. وهذه وضعية غير سليمة في العلاقة بين القيادة والقاعدة تعيق (الإصلاح الداخلي) وتؤدي إلى تراكم الأخطاء وتكرارها وانتشار روح البلادة والتواكل واللا مسؤولية والميكانيكية في الأداء والنمطية في الرأي والتصور والمفاهيم.
للمزيد انظر: ركنية الحوار وأساسيته وتحديد المضغة الاجتماعية
حل هذه الإشكالية يكمن في ضرورة تبني سياسة (الإحلال) التدريجي للدماء الجديدة الشابة الواعدة في الهيئات العليا للتنظيم الإسلامي محل الآباء المؤسسين والحرس القديم). هذا أمر إما أن يأتي طوعا أو كرها بيد أن مجيئه طوعا واقتناعة ومحبة وإدراكا وتقديرا ألصق لا شك بروح الإسلام ومشروعه العظيم في بناء العلاقات الإنسانية. إن الأحزاب والجماعات العقائدية الحاكمة اليوم بدأت تدرك ضرورة تجديد وتطوير الدماء والقيادات والطروحات وصيغ العمل وهياكل التحرك، تفعل ذلك وهي حاكمة بيدها السلطة وآلة العنف والترهيب (الجيش والشرطة) ووسائل الترغيب المال والنفوذ والشرعية الدولية (سفارات وعضوية في المنظمات الدولية)، فهل نبالغ إذا قلنا إن الحركة الإسلامية - وهي الشريدة المستضعفة المهيضة - أحوج ما تكون لذلك؟:
تنزيل النصوص في غير منازلها:
هذا الركود في هياكل القيادة لدى الحركة الإسلامية المعاصرة تفرع عنه بعض المفاهيم الحركية الخطيرة في مسألة الطاعة والانقياد والبيعة، يقول د. محمد عمارة وهو يتعرض لمظاهر الخلل في الحركة الإسلامية المعاصرة أن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد بالغت في ترويض أعضائها على طاعة القيادات أكثر مما دربتهم على محاسبة ونقد وتقويم هذه القيادات وليس يكفي أن يقال إنها طاعة في غير معصية ذلك إن الخلل في علاقة «الطاعة» بـ«الحرية على النحو الذي لا ينمي في الأعضاء ملكات النقد والنصح وشجاعة الاعتراض عند أعضاء هذه الحركات هو بالقطع معصية من معاصي التربية في هذه الحركات لأنها تثمر - ولقد أثمرت وحدانية الرأي، رأي المرشد والأمير والإمام بل وأثمرت العديد من ألوان التفكك والقصور والتشرذم التي أصابت العديد من هذه الحركات عندما غاب المرشد فغاب عنها الرشد لافتقارها إلى قيادات مدربة وحكيمة وحصيفة في صفوفها التي تقف وراء المرشد والأمير والإمام - الصفوف الثانية والمتوسطة والقاعدية.
للمزيد انظر: ماذا ستفعل الحركة بجموعها الكبيرة؟
ورغم كثرة الحديث في الحركة الإسلامية عن الشورى ووجوبها وعن الشجاعة الأبية وتاريخها الإسلامي وعن حرية الرأي والتفكير في الإسلام، إلا أن واقع الأمر داخل معظم (تنظيمات) الحركة لا ينبيء بأن القيادة تقف لصالح هذا التوجه الذي بات دعائيا أكثر منه واقعيا. فوجوب الشورى عند القيادة هو التمسك بميكانيكياتها دون الحرص على روحها.
وأما (الشجعان) الذين يمارسون الشجاعة الأدبية: فتلصق القيادة بهم شتى أنواع الاتهامات لمجرد أنهم يطالبون بـ«الحوار» معها. والأخطر هذا وذاك هو تسخير بعض (تنظيمات الحركة لبعض العاملين في مجال (العلوم الشرعية) لإشاعة بعض المفاهيم المعوجة حول الإمارة والبيعة والطاعة عبر بعض (النصوص) التي لا يكلفون أنفسهم بدراسة سياقها التاريخي والموقعي لمعرفة دلالاتها الأدق. فيربط هؤلاء - سامحهم الله وغفر لهم ولنا معهم - بين بعض أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم حول الإمارة لله والبيعة والطاعة وبين وجوب طاعة وبيعة قادة (التنظيمات) في الحركة فمثلا يقول قائلهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني) رواه مسلم أو الحديث الذي يقول فيه: من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات، فميتته جاهلية) رواه مسلم ويؤكدون من خلال هذه الأحاديث وغيرها أن الطاعة إذن (لأمير التنظيم) واجبة وأن من فارق (جماعة التنظيم) فهو إلى الإثم أقرب منه إلى الطاعة.
للمزيد انظر: ضرورة فك الاشتباك بين الدين والتنظيم
هذا التنزيل للنصوص في غير منازلها الصحيحة أدى إلى تكاسل في النفوس لدى القواعد وضعفت فيها وخوّف من الرأي والشجاعة الأدبية وأهلها مخافة (الميتة الجاهلية) وقاهم الله ووقانا وأهل الملة منها. والناظر لهذه الأحاديث لا يصل إلى ما وصلوا إليه في تفسير دلالاتها الشرعية، فالأمراء الذين يعينهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث هم (أمراء الجند) وقادة الحرب في القتال إذ ليس من المعقول - في ساحة الحرب والقتال - التسامح مع الاختلاف الذي يؤدي إلى ـ- ربما - فرقة في القدرة القتالية وتشتيت لها. فالطاعة في هذه المواقع - مواقع القتال - لا شك واجبة وإن رأينا من قادتنا ما نكره فليس الوقت وقت مؤاخذة ومحاسبة، بل وقت قتال غير أن هذا الأمر لا يمكن سحبه وتنزيله على (أمراء) الجماعات الإسلامية أو قادة الدول العربية أو الإسلامية لأن الأمر سيفضي حتما إلى مفسدة وقهر وتسلط لا يقره الإسلام. إن صناعة الرجال في حد ذاتها تتنافى مع هذه (العسكرة) السائدة في علاقة القيادة بالقاعدة في بعض التنظيمات الإسلامية، وتتنافى مع تراث المدرسة النبوية في تربية الرجال، وصناعة القادة ولا نبالغ إذا قلنا بأن السبب الرئيسي وراء ظاهرة التشرذم والانقسام والانشطار والانشقاق التي تعيشها تنظيمات الحركة الإسلامية هو هذا الضغط المتعسف على عقول مئات وألوف الأعضاء وصبهم كقوالب الأسمنت والكونكريت - ذات أطوال محدودة أن ذلك يتنافى مع إرادة خالق الخلق سبحانه وتعالى الذي كرس هذا (التنوع) في خلقه فجعله آية من آياته : ﴿ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾. هل يشك أحد في طاعة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك نجد محاوراتهم ومطارحاتهم ومناقشاتهم ومشاوارتهم وتساؤلاتهم مع رسول الله تدفعه - وهو المؤيد بالوحي والمسدد به وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى - لأن يقول لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما أي لو اجتمعتما في رأي يخالف الرأي الذي أراه خالفتكما). رواه أحمد ونحن لا نطمح أن تبلغ سماحة وسعة قادة (التنظيمات) الإسلامية هذا المبلغ، بل كل الذي نطالب به هو السماح (بالحوار الداخلي) الجدي معهم حتى لا تغرق السفينة جراء هذه (العسكرة) المتصاعدة والسرية الباثولوجية.
للمزيد انظر: عوامل الضعف في خطاب الحركة الاجتماعي
لماذا تتخذ القيادات في معظم (التنظيمات) الإسلامية هذا اللون (الكاكي المرقط)؟ ربما تفسير ذلك يكمن في أن جل التنظيمات العقائدية العربية والإسلامية تشكلت في مراحلها الأولى في أقطار نضجت فيها التناقضات الاجتماعية وانعكس ذلك بدوره على أنساق التعامل بين القوى الاجتماعية من أجل حسم تلك التناقضات مما تطلب - كشرط موضوعي للحالة ـ- هذه العسكرة في القيادة، وهي ظاهرة - بالمناسبة ـ- موجودة حتى في التنظيمات العربية العلمانية. والحركة الإسلامية المعاصرة - كما تتمثل في جماعة الإخوان - نشأت في الإسماعيلية (مصر) 1928، ومصر قطر تتضافر فيه عدة عوامل جغرافية واقتصادية واجتماعية وتاريخية وبشرية لتفرز (سلطة قابضة وقوية وانعكس ذلك على شكل وأسلوب كافة (السُّلط) هناك (ابتداء من سلطة الأب في العائلة مرورا بالعمدة في القرية والفتوات في الحي والعائلات في النجوع والزعيم في الحزب والناظر في المدرسة). ولأن (التنظيمات) الإسلامية في عموم الأقطار العربية والإسلامية تأثرت (بالحالة المصرية) في العمل الإسلامي، يكون من المتوقع أن تستعير المفاهيم والأبنية التنظيمية والمصطلحات (الحركية والضبطية) الشائعة في مصر ونادرة الاستعمال في غيرها من الأقطار ولسنا بحاجة إلى القول إن شبكة الظروف التي تتضافر في مصر وتعتمل هناك ليست موجودة في معظم أقطار العروبة والإسلام، ولذا لا ينبغي نقل التجربة المصرية في العمل الإسلامي نقلا حرفيا وآليا، بل ينبغي مراعاة الخصوصيات الإقليمية والقطرية وفرز القيادة الحركية الملائمة كما يؤكد د. حسن الترابي في السودان وراشد الغنوشي في تونس.
الحرس القديم مصطلح سياسي يقصد به (الآباء المؤسسون) للحزب وجيلهم من الحزبين.
للمزيد انظر: ثغرة في خطاب البنا رحمه الله
للمزيد انظر: حول الوعي الحقوقي لدى أبناء الحركة الإسلامية
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://asmaanawar.pse.is/5wzr8h