يوليو 3, 2024

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (6)

أسماء راغب نوار | الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (6)

بقلم: دكتور/ عبدالله النفيسي - أستاذ العلوم السياسية

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (6)

 

تعليقات أخرى على خطاب الحركة

ثغرة في خطاب البنا رحمه الله:

الذي يتأمل ساحة مصر السياسية منذ سنة 1928 حتى الآن يلاحظ أن علاقات الإخوان المسلمين ببقية الأطراف السياسية في تلك الساحة (أحزابا ونقابات بالأخص) كانت دائما متوترة وغير إيجابية. وأظن - والظن أحيانا يفيد اليقين - إن مرجع ذلك يعود لموقف مؤسس الجماعة حسن البنا رحمه الله من الأحزاب وبقية الأطراف السياسية في الساحة المصرية. لقد كان خطاب البنا منددا بالأحزاب، بل وأحيانا محرضا للدولة المصرية ضدها وهذا برأيي يعكس-لديه- غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر. عندما كان البنا يخاطب المجتمع السياسي المصري - يبدو - وكأنه يخاطب مجتمعا خاليا من الفرقاء والمنازع، والمدارس الفكرية والسياسية، والهيئات، والجهات، والأحزاب والنقابات وغير ذلك من تشكيلات المجتمع السياسي العصري. ومن الواضح لكل قارئ لخطاب البنا - وهو مؤسس لخطاب جماعة الإخوان- إن الرجل كان ضد (التعددية) وخاصة السياسية. ولم يكن من المعقول أن تتقبل (الأحزاب المصرية) كلام البنا في هذا المجال وهو القادم الجديد إلى الساحة، خاصة وإن بعض تلك الأحزاب (كالوفد مثلا) قد حكم مصر أكثر من مرة وله تواجده السياسي في الجمهور المصري.

رجل آخر من رجالات الحركة الإسلامية عصرته التجارب السياسية وفتحت ذهنه وعقله واجتهاده على الأطراف الأخرى وأوصلته لقناعات ومواقف مغايرة للبنا. ها هو ذا في تونس راشد الغنوشي رمز من رموز حركة الاتجاه الإسلامي يقول منتقدا البنا:

هناك خطأ سياسي شنيع.. ارتكبته حركة البنا ولا يزال متواصلًا وهو أن الحركة الإسلامية تقدم نفسها وصيا على المجتمع وليس طرفا سياسيا أو فكريا يستمد مشروعيته من قوة الحجة وإقناع الجماهير ببرامجه.. إن الحركة الإسلامية ما زالت تستنكف بشدة أن تعتبر نفسها كبقية الأطراف السياسية - شيوعية أو اشتراكية أو ديمقراطية - طرفا من المجتمع.. ومن هذا المنطلق طالبت حركة البنا (الإخوان) بحل الأحزاب وما زال ضمير الحركة الإسلامية - في وعيه أو لا وعيه- يستنكف أن يكون حزبا ويشمئز من قضية الأحزاب ويصر على أن يكون ناطقا باسم المجتمع، باسم الإسلام، باسم المسلمين. انظر الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي ص 285. ومع ذلك يلاحظ أن الخط السياسي الذي اتبعته جماعة الإخوان منذ تأسيسها حتى الآن يحاكي ويتابع موقف البنا من هذه القضية أكثر بكثير من موقف الغنوشي. ولذا نجد أن جماعة الإخوان - نظرا لموقفها من التعددية السياسية والمزاحمة الفكرية الذي أسلفنا بيانه - غير قادرة حتى الآن على تأسيس شبكة متوازنة ومستقرة لعلاقاتها السياسية مع الأطراف السياسية الأخرى في السُوح (جمع ساحة) العربية والإسلامية. هذا الجانب من خطاب الحركة الإسلامية - والإخوان مثل ذلك - يكرس عزوف القوى السياسية والاجتماعية العربية والإسلامية عن التفاهم مع الحركة ويؤدي في النهاية إلى عزلتها وتخمير كل مركبات النقص السياسية في جسم الحركة. بينما لو أقرت الحركة الإسلامية رسميا التعددية السياسية والمزاحمة الفكرية لتفتحت أمامها أبواب كثيرة للتعامل السياسي والتفاعل الاجتماعي ولدخلت في تجارب العمل السياسي من أبوابه بدلا من نوافذه وأحيانا من شقوقه كما هو حاصل الآن.

للمزيد انظر: غياب التفكير المنهجي

 

الحزب كظاهرة سياسية:

من المؤسف أن البنا رحمه الله في جل رسائله وخطبه وأحاديثه ومقالاته في جريدة الإخوان اليومية في الأربعينيات أكد أكثر من مرة أن الإخوان (ليسوا حزبا من الأحزاب)، لا بل ذهب إلى أكثر من ذلك. حين حرض الدولة المصرية على حل الأحزاب وقمعها والإنكار عليها، ونقدي لهذا الأمر ينصب على محورين: نظري وعملي. نظريا: ما هو الحزب؟ يعرف دو فرجيه، وإدموند بيرك، وجان بودان، وروسو، وبيلي، وكنت، ونيومان وكلهم كتبوا في موضوع الأحزاب كظاهرة من ظاهرات الاجتماع البشري السياسي، أقول يعرف هؤلاء الحزب ربما بألفاظ مختلفة لكنهم يجمعون على أن (الحزب السياسي هو اتحاد بين مجموعة من الأفراد بغرض العمل معًا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة متفقين عليها جميعا).

والحزب خلال تحركه يقدم للمجتمع السياسي (الشعب) عدة خدمات: يقدم للشعب مختلف المعلومات حول الاقتصاد والسياسة والأمن والمستقبل بطريقة مبسطة وواضحة عبر كراساته ورسائله فتوقظ فيه الوعي السياسي الجوانب مشاكله. والحزب يُمَكِّن فئات المجتمع من التعبير عن رغباتها ومعتقداتها بطريقة مبسطة وفعالة. والحزب يقوم بمهمة الرقابة على أعمال الهيئة الحاكمة وفي ذلك فائدة للجميع بما فيها الهيئة الحاكمة. ووجود أحزاب متطاحنة ومتنافسة لا يعني أن الحزب ظاهرة سياسية تقع في خانة السلبيات، بل إن هذا التطاحن يعطي الشعب فرصة مناسبة لاختيار أصلح الطرق والمناهج لحل مشاكله، ونسأل بعد أن وضعنا أمام القارئ التعريف الذي استقر عليه علماء السياسة (للحزب)، أليس جماعة الإخوان حزبا؟ وفي يقيني أن الجماعة يشكلون حزبا وهم الآن في مصر يبحثون بحثا عن كافة المخارج القانونية لكي يثبتوا للدولة هناك بأنهم حزب جدير بالاعتراف الرسمي من قبل السلطات، إن الإخوان اليوم في مصر يبذلون جهودا كبيرة في هذا الصدد لكنها لم تثمر حتى الآن نعم إن الإخوان حزب - وليس في هذا أدنى انتقاص لمكانتهم ولدورهم النضالي الذي لعبوه في تاريخ مصر المعاصر - الإخوان حزب لأنه اتحاد بين مجموعة من أفراد بغرض العمل معا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة في هذه الحالة (الإسلام) متفقين عليها جميعا. هذا نظريًا. أما عمليًّا فلم يكن مستساغا - سياسيًّا - إن يتحرك البنا في الأوساط السياسية داعيًّا لإلغاء - نعم إلغاء - كافة الأحزاب - ما عدا جماعته - من الوجود القانوني في الساحة المصرية ومن المعلوم أنه كانت هناك - وقتها - شبكة من الأحزاب السياسية المتواجدة في مصر سبقت تشكيل جماعة الإخوان وكان لهذه الأحزاب أدوارا سياسية مهمة كما أن لتلك الأحزاب مؤسساتها وقواعدها الاجتماعية ولم يكن من المعقول أن تقبل دعوة البنا بحل نفسها خاصة وأن بعضها كالوفد مثلا قد وصل للحكم أكثر من مرة. هذا الموقف من طرف البنا المضاد للأحزاب - مبدئيا وليس ضد المغالاة الحزبية وهو ما نتفق عليه - قد وتر علاقاته السياسية معها رغم استعداد الأخيرة لقبول جماعة الإخوان كشريك سياسي في الساحة، لقد وضع البنا - بذلك - الجماعة في زاوية تاريخية حادة - من حيث علاقاتهم السياسية - وربما قطع الجسور مع كثير من الأحزاب السياسية التي كسبت الشرعية السياسية الواقعية سواء بصلتها بالهيئة الحاكمة أم بقاعدة الجمهور. ويبدو أن جماعة الإخوان في مصر (وهي تحاول اليوم الحصول على ترخيص رسمي كحزب) لم تنجح في الخروج من هذا المأزق الذي كان نتيجة لخطأ كبير في اجتهاد المؤسس حسن البنا رحمه الله. ولأن الإخوان تاريخيا وقفوا مبدئيا ضد جميع الأحزاب من حيث الحق القانوني في الوجود، نجد أن معظم الأحزاب اليوم لا تقف مع حقهم في الوجود القانوني كحزب أو على الأقل لا تتحمس لذلك. هذا ولقد تضررت كل تنظيمات الإخوان في باقي البلاد العربية من هذا الموقف لأنها - وجريا على سُنة المؤسس البنا - باتت لا تعرف، بل لا تستطيع التعامل السياسي مع الفرقاء السياسيين في مختلف السوح العربية ما عدا السودان وتونس حيث تمكن د. حسن الترابي وراشد الغنوشي تحقيق قدر معقول من التحرر الفكري والتصوري إزاء القوالب التقليدية للعمل الإسلامي العام ممثلا بصيغة الإخوان. لذا نجد الترابي قادرا على هضم متطلبات العمل السياسي وتعاطي متغيراته برشاقة، ومن جهة أخرى نجد الغنوشي في تونس يحظى باحترام وتقدير كافة الفرقاء السياسيين في الطيف السياسي هناك بما في ذلك الحزب الشيوعي التونسي.

للمزيد انظر: ركنية الحوار وأساسيته وتحديد المضغة الاجتماعية

من مصلحة الجميع تحديد قواعد اللعبة:

خلال العهد الملكي في مصر وقف الإخوان ضد جميع الأحزاب وأفصح البنا رحمه الله أكثر من مرة عن رأيه بضرورة حلها. وجاءت (الحركة المباركة) ليلة 23 يوليو 1952 والتي لعب الإخوان فيها دورا حمائيا للثورة وشريكا في حركتها. وصدر في يوم 16 / 1 / 1953 قرار من (مجلس قيادة الثورة آنذاك بحل كافة الأحزاب في مصر مع استثناء الإخوان من قرار الحل نظرا للعلاقة الخاصة بين بعض رجال الثورة وقادة الإخوان وما كان من الإخوان وقتها إلا التصفيق للقرار ـ وهو قرار رغم كل مبرراته السياسية الظرفية - إلا أنه لا يمنع القول بأنه مجاف للحريات العامة في بلد كمصر زاخرة بحركاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية. وعندما تغير الحال في علاقة الإخوان بمجلس قيادة الثورة بعد صدام 1954 الدامي أخذ الإخوان يتلفتون يمنة ويسرة يبحثون عن فرقاء سياسيين يقفون معهم فلا يجدون وتركوا (بالضم) كما تركوا (بالفتح) سابقا. واليوم نجد أن الإخوان في مصر - وعلى لسان نوابهم في مجلس الشعب - يقفون مع حرية تشكيل الأحزاب بكل أنواعها حتى إن مأمون الهضيبي أفصح عن ترحيبه بحزب (قبطي) لو رغب الأقباط في تأسيسه.

طبعا السبب الذي يدفع الإخوان لذلك هو رغبتهم الملحة للحصول على ترخيص رسمي للعمل. وفي رأيي - وقد أكون مخطئا - إن الإخوان أو تحديدا قيادة الإخوان قد أخطأت في موقفها إزاء التعددية السياسية من البداية. هذا من جهة. ومن جهة أخرى لم تلتزم بهذا الموقف وتنسجم معه على طول الخط: تارة تقف ضد حرية الأحزاب (في 16 / 1 / 1953) عندما استثنيت من الحل وتارة تقف مع حرية الأحزاب عندما تحاول اليوم الحصول على ترخيص رسمي للعمل كحزب. ويهيأ لي أنه من الأفضل للجميع ومن مصلحة الجميع تحديد قواعد اللعبة ومن قواعدها الموضوعية (التعددية الفكرية والسياسية) للجميع الإسلامي وغيره من الانتماءات: فإما الإقرار بذلك أو ستجد الحركة الإسلامية نفسها في عزلة سياسية لا تحسد عليها ويبقى في رأيي الغنوشي في تونس مثالا جديرا بالمراقبة والتحديق لأنه يتحرك بذكاء وفقه الله. ومن يقارن مسار (جماعة الإخوان) في مصر بمسار (حركة الاتجاه الإسلامي) في تونس - من حيث عملها السياسي - لا يحتاج لكثير ذكاء لترشيح الثانية - كصيغة عمل - على الأولى، ذلك أنهم في تونس وخلال (أقل من – عقد) حققوا ما لم يحققه الإخوان في مصر خلال ستين عاما. مفتاح اللعبة هنا كما نرى يكمن بتسليم (حركة الاتجاه الإسلامي) بالتعددية ورفض (الإخوان) لها. والله أعلم.

للمزيد انظر: ماذا ستفعل الحركة بجموعها الكبيرة؟

 

يجب الإقرار بحق الاختلاف فيما يجوز الاختلاف فيه

 

قوة البرهان مقابل سطوة السلطان:

لقد مر التاريخ الفكري في الإسلام بمرحلتين: الأولى برزت فيها (قوة البرهان) والثانية انتفش فيها (سوط السلطان). في الأولى كان الإسلام هو سيد الموقف على شتى الصعد في الحكم والفتح وتوزيع الثروة فنشأت المدارس الفكرية والاجتهادية والفقهية في مناخ عام مفعم بالعافية والتطلع إلى ريادة الإنسانية، ومن هنا جاء المنزع الإنساني في فكر تلك المرحلة. ولأن معطيات تلك المرحلة كانت تدعو إلى الثقة لم يكن المسلمون – إذن - يهابون الاختلاف في الرأي أو الاتجاه أو الفهم. على عكس ذلك كانت المرحلة التي تلتها (مرحلة سوط السلطان) حيث تراجع الإسلام عن القيادة وأقصيت مقرراته عن الحكم والفتح وتوزيع الثروة فضمرت المدارس الفكرية - والاجتهادية والفقهية وانتشر (وعاظ السلاطين) في كل مصر من أمصار الإسلام يبررون (ولاية المتغلب). ولأن معطيات هذه المرحلة لم تكن تدعو إلى الثقة، ولأن المرحلة كانت تنبئ عن ضعف وانحطاط وانحسار وتآكل تاريخي، لذا شاع بين المسلمين الاستبداد والقهر والخوف من الحرية والرأي الآخر والنزوع إلى الرأي الواحد والحزب الواحد. لقد أدرك الناس في المرحلة الأولى أن (الاختلاف) سنة إلهية قررها الخالق على المخلوق في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ هود: 118.

للمزيد انظر: ضرورة فك الاشتباك بين الدين والتنظيم

وليس من الحكمة ولا من الدين تجاهل هذا الاختلاف بين الناس في المدارك والتصورات والمفهومات والآراء والاتجاهات والألسنة وغير ذلك من الصور، ولكن الحكمة تقتضي (تنظيم وتقنين الاختلاف بحيث يتحول إلى ينبوع إثراء للحياة الإنسانية بدلا من أن يتحول إلى سيف مسلط على رقاب البشر. ويبدو أن الرجال الذين رباهم محمد وأدركوا ذلك حق الإدراك ولذا نجد فيهم ثراء ورحابة وسعة فكرية وإنسانية قلما نجدها بين مسلمي هذا العصر. والاختلاف الذي وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم ولا يزال واقعا بين المسلمين هو جزء من الظاهرة الطبيعية التي أشارت إليها الآية التي سبق ذكرها. هذا ولقد اختلف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمور ولم ينكر عليهم ومثال ذلك يوم الأحزاب (انظر صحيح البخاري بهامش شرحه فتح الباري 7/313). واختلف الصحابة في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت واعتبر القول بوفاته إرجافا من المنافقين (موقف عمر بن الخطاب) واختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه واختلفوا في خلافته فيمن تكون الخلافة، أفي المهاجرين أم في الأنصار، أتكون لواحد أم لأكثر؟ وهل يناط بالخليفة نفس الصلاحيات التي كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا حول قتال مانعي الزكاة وسبي أهل الردة وقسمة الأراضي المفتوحة والمفاضلة في العطاء والاستخلاف. وذكر ابن القيم في (أعلام الموقعين) أن المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن مسعود عمر رضي الله عنهما لما بلغت مائة مسألة. واختلف الأوزاعي مع أبي حنيفة في كثير من القضايا، كما اختلف الأئمة (الحسن البصري وأبو حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري وابن سعد ومالك وابن عيينه والشافعي وابن حنبل وغيرهم) في استنباط الأحكام وأخذ منهم منهجه وطريقته.

وبكل سعة وسماحة كان أبو حنيفة يدلي بدلوه في المسألة ويقول (هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر عليه أحد فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به) ورغم شدة الاختلاف في الفتيا بين ابن عباس (ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) وزيد بن ثابت، فقد رأى الأول الثاني يوما يركب دابته فأخذ بركابه يقود به فقال: زید تنح یابن عم رسول الله. فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني يدك. فأخرج ابن عباس يده. فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.

للمزيد انظر: عوامل الضعف في خطاب الحركة الاجتماعي

وجاءت بعد ذلك المرحلة الثانية (سوط السلطان) وفيها تحقق الفصل التام بين القيادتين في الأمة الفكرية والسياسية وهو أمر لم يكن موجودا في المرحلة الأولى. ونظرا لهذا الفصل بين القيادتين في الأمة (الفكرية والسياسية صار الساسة (السلاطين) يقومون بأعمال وممارسات تنم عن جهل في السياسة الشرعية. وصار الفقهاء - شيئا فشيئا - يبتعدون عن لب المسائل ويشتغلون بقشورها طلبا للسلامة من (المتغلبين) وهم كثر. وبعد أن كان الفقه أفضل الطرق لضبط حياة الناس مع مقررات الإسلام صار في ظل (ولاية التغلب) وسيلة لتبرير سلطات الساسة واستبدادهم. وتهميش الفقه ودوره وبعد أن كان الناس يسألون - في المرحلة الأولى - الأموال وتقسيمها والأرض وأحيائها والإمارة وضوابطها صاروا في المرحلة الثانية يكتفون بالسؤال - مثل أيامنا هذه- عن الوضوء من لمس المرأة ومس الذكر وعن جواز لعب الشطرنج وأكل لحوم الخيل وغير ذلك. إنها مرحلة الهبوط والانحسار والتآكل التاريخي. يروي ربيع بن يونس حاجب المنصور أن المنصور دعا ابن ذئب والإمام أبا حنيفة وقال لهما : كيف تريان هذا الأمر (الخلافة) الذي خولني الله تعالى فيه من أمر هذه الأمة، هل أنا لذلك أهل؟ قال ابن أبي ذئب للمنصور: [ملك الدنيا يؤتيه الله تعالى من يشاء وملك الآخرة يؤتيه الله تعالى لمن طلبه ووفقه الله تعالى والتوفيق منك قريب إن أطعت الله تعالى وإن عصيته فبعيد وإن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى لمن وليها، وأنت وأعوانك خارجون عن التوفيق عادلون عن الحق فإن سألت الله تعالى السلامة وتقربت إليه بالأعمال الزاكية كان ذلك وإلا فانت المطلوب]. وما الذي حدث لابن أبي ذئب؟ قال أبو حنيفة - والذي كان يقف بجانب ابن أبي ذئب [كنا نجمع مخافة أن يقطر علينا من دمه] إنها مرحلة الإرهاب، والتسلط، والاستبداد، والدم.

 

الحركة الإسلامية وضرورة الانعتاق من مواريث المرحلة الثانية:

 

ومن الملاحظات المؤسفة التي يجدر تسطيرها هنا هي أن الحركة الإسلامية - من حيث موقفها إزاء حرية الاختلاف والتعددية الفكرية والرأي الآخر - تبدو متأثرة بالمرحلة الثانية (سوط السلطان) من تاريخ الإسلام الفكري أكثر من استلهامها المرحلة الأولى (قوة البرهان) وهي المرحلة التي ينبغي أن تكون في معيارية الحركة أكثر تمثيلا لخط الإسلام الأيديولوجي. وحيث إن الحركة الإسلامية تسوغ وجودها السياسي باعتبارها حاضنة المشروع الإسلامي. وحيث إن الأخير ازدهر في المرحلة الأولى فينبغي - ويكون من المتوقع أن تلتصق الحركة الإسلامية بقيم الفكر والسياسة في تلك المرحلة لا في المراحل التي تلتها، وتكون الحركة أكثر تمثيلا للإسلام ولمشروعه في البناء الحضاري والإنساني لو إنها فعلت ذلك. ومن المهم أن تدرك الحركة - وبالأخص قيادتها - أن في تاريخ الإسلام مراحل نهوض ومراحل هبوط مراحل نصر ومراحل هزيمة مراحل فتح ومراحل انكفاء مراحل وحدة ومراحل تجزئة، مراحل عدل ومراحل ظلم مراحل حرية ومراحل نور ومراحل ظلام. ومن المهم كذلك أن تدرك الحركة - وبالأخص قيادتها- وهي تصيغ (المشروع الإسلامي) وخطابه ضرورة أن تستلهم قيم النهوض والنصر والفتح والوحدة والعدل والحرية والنور، لا قيم الهبوط والانزواء والتجزئة، والظلم، والاستبداد، والظلام. يكفي أن نقول إن مشروعية الحكم في المرحلة الأولى كانت تستند إلى شورى المسلمين وإرادتهم العامة، أما في المرحلة الثانية فقد كانت تستند إلى (التغلب) وفقه (التغلب) ووعاظ (التغلب) وشتان بين الحالين.

ولأن الحركة الإسلامية متأثرة - للأسف - بمواريث المرحلة الثانية (وهي مرحلة ضعف وانحسار وتآكل) نجد أن ذلك انعكس على منهجها الفكري وبنائها التنظيمي وعلاقاتها السياسية بالأطراف الأخرى. فمنهجها أحادي التوجه وغير قادر على التفاعل الفكري مع التيارات التي يعج بها هذا العالم الفسيح، ومن الخطأ التصور أن كل التيارات الأخرى معادية للإسلام وتريد هدمه. وانعكس الأمر على بنائها التنظيمي فغابت في الحركة أية إمكانية لاستيعاب الخلاف في وجهات النظر وتعددية الآراء فكثرت الانشقاقات في الحركة وانشغلت الحركة بذلك بدل أن تنشغل بـ (المشروع الإسلامي) وهو من الخطورة والأهمية والجذرية والعالمية ما يحتاج كل ذرة من طاقات المؤمنين. وهناك قطر إسلامي بدأت فيه الحركة كحركة واحدة وأصبحت اليوم بعد انشقاقاتها على مدى السنين ثلاثا وتسعين حركة مستقلة عن بعضها. أما انعكاس هذا الأمر على علاقات الحركة السياسية مع الأطراف الأخرى فأوضح من أن يتطلب الحديث عنه، فالحركة حتى الآن غير قادرة على تأسيس شبكة متوازنة ومستقرة لعلاقاتها السياسية مع الأنظمة والقوى السياسية المتفاعلة في الوطن العربي والإسلامي.

حركة كبيرة ومهمة كحركة الإخوان اليوم تتعرض لنفس الإشكالية: أي عدم تقبل واستيعاب وتوظيف الرأي الآخر. في سنة 1953 حدث خلاف في الرأي بين الإخوان في مصر: أناس يؤيدون الهضيبي رحمه الله وأناس لديهم ملاحظات مهمة حوله ويرون من الأنسب اعتزاله وبدلا من أن يناقش الأمر وتتقادح الآراء وتستوعب المشكلة، إذا بالقيادة تتجاهل ملاحظات (المعارضين) وتسفه آراءهم وتنشر بين الإخوان تهما تلصق مما يضطرهم للاعتصام بـ (المركز العام للإخوان وتكون بهم النتيجة صورة مشوهة للإخوان في الشارع المصري وتنعقد لجنة للتحقيق بعد خراب البصرة) وتعقد ثماني جلسات على مدى أربع وثلاثين ساعة لتوجه ست عشرة تهمة لثلاثة من كبار المعارضين) للهضيبي رحمه الله وهم: الشيخ صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي والأستاذ أحمد عبد العزيز (وانتهي الأمر ) بفصل الثلاثة ومن يتبع نشاط الإخوان في مصر وسوريا والأردن واليمن والجزيرة العربية وغيرها من الأقطار يلاحظ أن الإخوان حتى الآن يعانون من نفس الإشكالية: عدم تقبل واستيعاب وتوظيف الرأي الآخر في مؤسسات تنظيمهم مما يرشح الإخوان لعملية متواصلة من التآكل الذاتي والداخلي وفي هذا لا شك خسارة كبيرة للدعوة الإسلامية والمشروع الإسلامي الذي حمله الإخوان منذ 1928 .

المطلوب هو الغوص إلى جذور هذه الأزمة الفكرية التي تعاني منها الحركة الإسلامية وإعادة النظر في المنهج الفكري الذي تتبناه الحركة والذي على أساسه شادت أبنيتها التنظيمية وعلاقاتها السياسية أيا كانت نوعية تلك العلاقات. المهم في النهاية أن تؤدي تلك المراجعة إلى رفع كفاية الحركة في التعامل مع الاختلاف والرأي الآخر) ضمن أعضائها وخارج أطرها، ومن المتوقع لو تمكنت الحركة من ذلك أن تشهد مراحل نوعية أخرى تدفع بمشروعها إلى الأمام. من جهة أخرى لو أصمت الحركة آذانها لهذه الدعوة فمن المتوقع أن تستمر عملية التآكل الذاتي الذي تعيشه الحركة هذه الأيام.

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (6)

للاطلاع على الكتاب بأكمله:

https://asmaanawar.pse.is/5wzr8h