الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (1)
بقلم: دكتور/ عبدالله النفيسي - أستاذ العلوم السياسية
مقدمة
ألا تلاحظ أيها القارئ أن التيار الإسلامي (الجماعة والأحزاب والتنظيمات والمؤسسات) ينمو بشكل مُتسارع ولا نبالغ إذا قلنا بشكل (وَرَمي). يلاحظ كذلك أن هذا التيار يعيش مشكلة كبيرة على صعيد المفاهيم Concepts والتنظيم Organisation والاتصال Communication والتعاون البيني Cross-Sectional Co-operation والمعرفة Knowledge والجمهور المخاطب Audience والموارد البشرية Human Resource والمنافسة Competition.
ألا تلاحظ أن «التنظيم الإسلامي» يقوم أساسا على السيطرة Control وليس على المشاورة Consultation وأن أهم عقبة تعيق الحركة الإسلامية هي طريقة تربية «حزبية» وليس تربية «اجتماعية» بمعنى أن مخرجاتها تضخ عنصرًا حزبيًا يقيس محيطه على مسطرة (المُقدَّس والمُدَنَّس) فالحزب مُقدس وأما المجتمع الأوسع فمُدنّس؟ وأن هذه المسطرة تعيق فهم المجتمع الأوسع لاستهدافات التنظيم الإسلامي؟ أليس كذلك؟ ثم لماذا ينادي التنظيم الإسلامي بالحريات السياسية في المجتمع الأوسع ولماذا يحاربها داخل التنظيم؟ ما هو الموقف الفعلي للتنظيم الإسلامي من مفهوم «الحرية»؟ ثم لماذا تغيب المؤسسات العدلية داخل التنظيم الإسلامي مع أنه يؤكد أهمية وجودها في المجتمع الأوسع وعلى صعيد الدولة؟ ولماذا صار من السهل استدراج الحركة إلى "حروب الوكالة" "Proxy wars" بحيث تقوم الحركة نيابة عن (النظام) بمحاربة فصيل سياسي شعبي آخر لصالح النظام؟ ثم لماذا نلاحظ أن (نجوم المال) باتوا يقررون للحركة الإسلامية كثيرًا من خياراتها السياسية؟ في عدة أقطار إسلامية؟ ألا تعرف ذلك الحركة عن أهدافها المفترضة؟
هذه وغيرها من الأسئلة تشكل - برأيي - ثغرات في طريق الحركة الإسلامية ينبغي مناقشتها بكل جدية حتى تستقيم الأمور داخل (التنظيم الإسلامي).
ديسمبر 2011
تنبيه الحركة الإسلامية لبعض الثغرات:
(1) غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد:
حجم الحركة الإسلامية وانتشارها لدى الجمهور العربي الإسلامي والإمكانات البشرية وإلى حد ما المادية المتاحة لها يسهل مهمات الانطلاق والبناء العلمي للحركة. غير أن التعقيدات التي تنجم عن أساليب وآليات المعالجة للمشاكل التي تعترض الحركة تحول دون ذلك. فالحركة بحاجة ماسة لمراجعة أساليب العمل ومن هنا صار لزاما عليها أن تطرح أزمتها الإدارية للحوار على الأقل داخل إطاراتها لأن الاستمرار هكذا (رهن الجمود الإداري) الذي تعاني منه هو ضمان أكيد لتراكمات الأخطاء والحؤول دون التصحيح المطلوب. ويبدو أن القائدة السياسية للحركة تركز جهودها في محاولة التصدي للأحوال الطارئة أكثر من التخطيط للمستقبل. فجميع مؤسسات الحركة غارقة إلى أكثر من قامتها في أعمالها اليومية. وهذا الأسلوب في العمل يقلص إمكانيات التفكير المنهجي ذي المدى البعيد. دون التفكير على المدى البعيد، يتزايد ضغط المشاكل الطارئة وهذا الضغط - بدوره -يعرقل التفكير في المدى البعيد، وإذا استمرت الحركة في العمل بهذه الكيفية فلا شك أنها ستظل ضمن هذه الحلقة الشريرة من المشاكل الطارئة.
(2) نظرية علمية للاتصال بالجمهور:
تفيد الدراسات المتخصصة في علم الاجتماع السياسي أن الجمهور لا يتحمس لمساندة أي تيار إلا إذا تحقق فيه شرطان:
الأول أن يفهم الجمهور مقاصد التيار وأهدافه، والثاني أن يجد الجمهور لدى التيار حلا لمشاكله الحقيقية التي يعاني منها. لذا ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعرض نفسها على الجمهور في صورة واضحة، ومفهومة، وميسرة. وعليها من جانب آخر أن تحدد بعلمية وموضوعية مشاكل الجمهور - وفق معطي الواقع لا خيالات الحركة - وأن تطرح الحلول لها والقيام بتعبئة الجمهور وتحريكه لصالح الحلول التي تطرح. من هنا صار لزاما على الحركة أن تتحاشى الغرق في الخلافات الفقهية المتعلقة بقضايا عفا عليها الزمن ولا علاقة لها بشأن الناس. إن الابتعاد عن الجمهور يؤدي إلى طغيان مركبات الفشل والكراهية وروح الانعزال فتتحول الحركة إلى (فرقة) أو في أحسن الأحوال (طائفة دينية) أو (طريقة) منكفئة في زاوية من زوايا الوجود الاجتماعي المهمش.
(3) الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة:
ثمة تصورات خاطئة مبثوثة بين الإسلاميين منها أن هذا العالم يعيش في حالة (فراغ) فكري، وروحي، وقيمي، وحضاري. وإن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ. كذلك تنتشر بين الإسلاميين مقولة مؤداها أن العالم يعيش حالة من الفوضى الفكرية والثقافية وأن الحركة الإسلامية مناط بها تصحيح هذه الفوضى ووضع الأمور في نصابها الصحيح. وهذه تصورات - أرى والله أعلم - في حاجة إلى مراجعة فالحركة الإسلامية لا تتحرك في فراغ، بل في عالم مكتنز ومزدحم - وربما أكثر من طاقته - بالأفكار والقيم ومشاريع الخلاص الروحي والمادي والوطني، بل إن من الأسباب الرئيسية التي تعيق تقدم الحركة الإسلامية في تحقيق بعض أهدافها هو هذا الاكتناز والازدحام والندية التي تملأ العالم. ثم إن العالم المعاصر - موضوعيا - يعيش اليوم أرقى درجات التنظيم والنظام وربما تكون هذه هي العبقرية البارزة لهذا العصر بقي أن تتجه هذه العبقرية في اتجاهات لا تروق لنا لا يعني البتة أن العالم يعيش في حالة من الفوضى العامة. هناك (نظام) يتحكم في هذا العالم، نظام عالمي له (قلب) يتحكم في مسيرته ويتكون من عدد محدود من الدول الغربية (بشقيها الرأسمالي والشيوعي) ويفرض سياساته على دول (الأطراف) وهي بلدان العالم الثالث حيث العالم الإسلامي. ولدى دول القلب وسائل تحكم عديدة بدول الأطراف: منها القوة العسكرية- وربط جيوش دول الأطراف بتصدير السلاح إليها أو منعه عنها. وهناك وسائل اقتصادية للتحكم (الصناعة والتكنولوجيا والمال) في حركة تنمية العالم الإسلامي وعمارته. وهناك أخيرا سيطرة دول القلب على وسائل الإعلام والاتصال واحتكار وكالات الأنباء لمصادر الأخبار التي تنشرها صحفنا المحلية، إلى السينما ومواد التليفزيون والإعلان مما يعيد تشكيل الأذواق والآراء والقيم في عالمنا الإسلامي. إزاء ذلك يحق لنا أن نسأل ما هي نظرية الحركة الإسلامية وتصورها للخروج من دائرة التبعية هذه؟ وهذا ما نعتقد أنه يشكل الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة أي غياب (النظرية المتكاملة) في السياسة الدولية والحراك الاجتماعي وتوزيع الثروة.
(4) عين على الحاضر وعين على المستقبل:
العالم اليوم يعيش حالة مستمرة من التغير الواسع النطاق. لنأخذ مثلا حول حاضر الإنسان العربي ونرصد التغيرات التي طرأت في محيطه خلال فقط العقدين الأخيرين (1965 - 1985): تضاعف عدد سكان العالم العربي مرة وازداد حجم المدن ثلاث مرات وارتفع عدد المدارس والجامعات أربع مرات وتضاعف متوسط الدخل مرتين وتضاعف الحجم المطلق للطبقة العاملة الحديثة مرتين وارتفع عدد أجهزة الراديو عشر مرات وارتفع عدد أجهزة التليفزيون عشرين مرة وانفجرت في المنطقة أربع حروب وتضاعف عدد المسافرين العرب إلى خارج الوطن العربي عشر مرات وزادت ديون بعض أقطار الوطن العربي في الخارج أربعين مرة (انظر التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي لا شك أن هذه تغيرات كبيرة وعميقة في ساحة عمل الحركة الإسلامية فكيف انعكس ذلك على برنامج عملها؟ وهل وظفت هذه التغيرات لصالح مشروعها؟ وهل طورت من أساليب عملها للتناغم مع هذه التغيرات؟ وهل أثرت هذه التغيرات على ترتيب الأولويات عند الحركة؟ وهل انعكست على الخطاب الاجتماعي الذي تحمله الحركة؟ لقد بدأ العالم اليوم وخاصة (دول القلب) التي تسيطر عليه بمراجعة مواقعها ومواقفها وتكويناتها وتشكيلاتها ونظمها واقتصاداتها وأولوياتها وفنونها وآدابها ومواردها البشرية والمادية واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية وعمليات صنع القرار في حكوماتها، يفعلون ذلك وهم في قمة السطوة والسيطرة المادية والثقافية والفكرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية على العالم أجمع وذلك تحوطا للمستقبل، فأين الحركة الإسلامية من موضوع المستقبل؟ وهل احتاطت له؟ وهل قامت بعملية المراجعة الحسابية التي يقتضيها؟ من خلال متابعة اختبار الحركة ونشراتها لا يبدو ذلك.
(5) ضرورة تجاوز العتبة الحزبية:
من كوارث العمل الإسلامي الذي تمارسه الحركة الإسلامية ارتداده إلى نشاط حزبي. فعندما يتحول العمل الإسلامي إلى عمل حزبي محض يتحول بعد فترة من الزمن إلى ميكانيكية حزبية تنتظر الأوامر من فوق وتبتعد رويدا رويدا عن ميزة الإبداع والحركة الذاتية (وهو سر تفوق الإسلام تاريخيا. يقول خالص جلبي في كتابه القيم (في النقد الذاتي: ضرورة نقد الحركة الإسلامية): إن الإنسان في الأجواء الحزبية يعمل في بعض الظروف ضد قناعاته، وهذا ما صرح به رجل بارز في اتجاه إسلامي حيث اعترف بأنه يعمل ضد قناعاته لأنه إن لم يفعل ذلك فسوف يتهم بالخيانة. فإذا حلت الكارثة بعد ذلك كان مشجب المهازل جاهزا، سبحانه وتعالى عما يصفون، ما هو الجواب؟ إنهم بذلوا جهدهم ولكن إرادة الله شاءت شيئاً آخر، أما إنهم أخطأوا فلا. كما حصل مع المؤذن الذي هب إلى الجامع متأخرا والناس راجعون من صلاة الصبح فلما سئل عن سبب تأخره قال: "أنا لم أتأخر ، لكن الشمس أشرقت اليوم باكرا أي إن افتراض حصول تغيرات كونية عظيمة خلاف سنة الله أسهل علينا من مراجعة أنفسنا" انتهى. ما نحن ضده أن يتحول الإسلامي الحزبي إلى حزبي أولاً وإسلامي ثانياً، وأن يصبح الانتماء الحزبي اتجاها عقليا في التفكير، وإن داخل الحزب مقدس وخارج الحزب مدنس وهذا ما حصل في كثير من التنظيمات الإسلامية الحزبية وهذا ما ننادي بضرورة مراجعته تجاوزه لإنقاذ العمل الإسلامي، إذ ليس من المعقول المناداة بالحرية والعدالة والكرامة وشعار الرجل المناسب في المكان المناسب خارج التنظيم الحزبي والقبول بعكس ذلك تماما داخله.
(6) جدلية الدين والتنظيم: فك الاشتباك:
أصبح "التنظيم" من حيث هو إدارة بشرية علما يدرس في الجامعات والمعاهد. وصارت المسألة التنظيمية تحتل مكانة بارزة في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والأحلاف والأحزاب والنقابات والجيوش وجماعات الضغط (بأنواعها). وصار لهذه المسألة خبراؤها ومؤرخوها ومهندسوها، وذلك لأن (النظم واللوائح) التي تحكم مسار أي تنظيم تنبئ وتفصح عن مستواه واتجاهه ومدى حيويته. فالنظم واللوائح هي التي تحدد أهداف ووسائل التنظيم وشروط العضوية (الحقوق والواجبات وتسلسل الهيئات الإدارية وشكل العلاقة بينها: كيف تجتمع ومتى وكيف تتخذ القرارات وتلغيها ... إلخ؟ والمشكلة في التنظيم الإسلامي أن النظم الأساسية واللوائح الإدارية تعامل وكأنها سر من الأسرار فالقاعدة العريضة من أبناء التنظيم الإسلامي ربما تقضي العمر كله في الصف دون أن تطلع - مجرد إطلاع على: (النظام الأساسي) دع عنك مناقشته أو مراجعته أو اقتراح التعديلات عليه. المفترض أن يتسنى للأفراد الاطلاع على النظم والقوانين التي تحكمهم وأن تتاح لهم فرصة مناقشتها ومراجعتها واقتراح التعديلات عليها، بل حتى إلغائها ووضع نظم وقوانين أخرى أكثر مواءمة. والمشكلة الثانية في التنظيم الإسلامي هذا التداخل الخطير بين «الدين» وهو أمر رباني و«التنظيم» وهو جهد بشري محض، بحيث أن الحد الفاصل بينهما لم يعد واضحًا، اختلاط هذا الأمر أضفى على التنظيم اللبوس الديني بحيث يشعر الإسلامي الحزبي بـــ (الإثم) لو خالف أمرًا تنظيميًا أو اعترض عليه. أما المشكلة الثالثة في التنظيم الإسلامي فهي أنه يطالب أعضاءه بتأدية واجباتهم تجاهه دون أن يسمح لهم بالمطالبة بحقوقهم عليه.
هذه بعض الثغرات وليست كلها التي تلاحظ على أداء الحركة الإسلامية نعرضها من باب التنبيه لها واستدراج العقول الاختصاصية للنقاش والحوار حولها إمعانا في إشباع الموضوع تمحيصا وتشخيصا ولقد حرصت على الاختصار مخافة السامة على القارئ، فجاءت الكلمة مجرد للتحريك ولدينا مزيد من التفاصيل الكثيرة في حال استمرار الموضوع للطرح.
استدراك لا بد منه:
لا يعني ما نذكره عن ثغرات في عمل الحركة الإسلامية أننا ننفي عنها الإيجابيات والمنجزات، لكن ما نود أن نؤكده هو أن الحديث عن الأخيرة لا يورث سوى مزيد من الرخاوة والتواكل - وقد أصابنا من ذلك الكثير بينما التنبيه للثغرات ربما يحرك يقظة مطلوبة. وخطوات أشد طلبا نحو التصحيح والتقويم. ولأننا نعتقد أن الحركة الإسلامية بحاجة إلى يقظة تؤدي إلى تصحيح أوضاعها الداخلية أكثر من حاجتها إلى معسول القول ولينه، لذا سيتركز الحديث على (الثغرات) قياما بواجب الصدق مع من يستحقونه. هذه واحدة.
نشعر ونحن نمارس الكتابة في هذا الموضوع أننا نمارس نقدّا ذاتيًّا، أي نقدا لأنفسنا، من حيث إن النقد الذاتي هو أصفى وأنقى صور النقد. ولو كانت مصارف النقد الذاتي والحوار الصريح مفتوحة ضمن إطارات الحركة الإسلامية لما دعت الحاجة إلى مناقشة قضايا الحركة (الداخلية؟) خارج الإطارات الرسمية للحركة، غير أننا على اطلاع تام (وعن كثب لا عن كتب) حول موقف قيادات الحركة وحدته إزاء ظاهرات النقد الذاتي والحوار إذ إن معظم الهيئات القيادية في الحركة تنظر لهذه الظاهرات على أنها (فتن ومن تلبيس إبليس وصورة من صور الغرور المنافية لتواضع المؤمن). ولقد التقيت منذ 1962 حتى الآن بمئات من الاختصاصيين الإسلاميين الذين لم تتحمل الحركة رغبتهم وشهيتهم للحوار والنقد الذاتي فضيقت عليهم الخناق حتى (طفشوا) من ذلك وكان مصيرهم الهدر والخروج من حظيرة الحركة حيث تلقفتهم المؤسسات والأحزاب والحكومات واستفادت من خبراتهم أيما استفادة وتجلت مهاراتهم فقط عندما خرجوا من الصف والعسكرة التي مورست ضدهم وهم فيه وتلك ثانية.
أما القول بأن مناقشة قضايا الحركة الإسلامية وطرح تفاصيلها في وسائل الإعلام من شأنه أن يكشف ظهر الحركة لأعدائها فذلك قول ساذج إزاء الثورة في نظام المعرفة والمعلومات في عصرنا الحديث. لقد نشرت مئات الأبحاث والرسائل وعقد كذلك عشرات المؤتمرات وصدرت مجلات وجرائد ونشرات أرشيفية خاصة وتشكلت لجان دولية وحزبية خاصة، كل ذلك لمتابعة أخبار الحركة الإسلامية وتطور أدوارها في الأقطار العربية والإسلامية على وجه الخصوص وحيث الأقليات الإسلامية (الكبيرة) في الأقطار الأوروبية والأمريكية على وجه العموم، حصيلة كل ذلك هو كم هائل من المعلومات تم تسييلها للتداول العام والقول بأن مناقشة قضايا الحركة الإسلامية في وسائل الإعلام كفيل بكشف ظهر الحركة الإسلامية لأعدائها برغم ما ذكر عن السيولة المعلوماتية في عصرنا - هو لا شك قول ساذج إلى أبعد الحدود. نحن فعلا نعيش في عصر ثورة المعلومات والاتصال ولا يمكن لأية دولة أو حزب أو حركة تتعاطى في السياسة أو غيرها من مجالات النشاط الإنساني أن تفرض على نفسها طوقا من الظلام أو العزلة عن المحيط بها، وحتى لو افترضنا إمكانية ذلك فنحن نعارض أن يكون هذا شأن حركة تحمل الإسلام بديلا عالميا بما في ذلك من تحديات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وعسكرية. وهذه ثالثة.
وانتقادنا للحركة الإسلامية لا ينبغي أن يفهم منه أننا نعاديها، بل ربما يعني أننا أكثر حرصا عليها وقلقا على مصيرها من الذين (يعضون بالنواجد) على أزمة قيادتها بأسلوب سلم نفسك أولا واهمس لنا برأيك ثانيا). وانتقادنا للحركة الإسلامية لا يعني إطلاقا الشك بمقولاتها الإسلامية بقدر ما يعني فهما مختلفا لتلك المقولات. ثم لنكن أوضح ونقول إن الدين أمر رباني لا نقبل نقده والحركة الإسلامية (ممثلة بالتنظيمات والأحزاب الإسلامية جهد بشري محض معرض للخطأ والصواب وبالتالي من الواجب تصحيحه وتصويبه وتقويمه وليس أمر عمر بن الخطاب عنا ببعيد حين قال له المسلمون الأوائل: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف، فما كان منه إلا أن قال: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها. ولا أعتقد أن زعماء وقادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تضيق صدورهم إذا عاملناهم كما عامل المسلمون الأوائل عمر بن الخطاب، مع الملاحظة أننا لم نشهر سيفا ولم نهدد به، بل هو القلم والرأي والحجة نعلنها تحت الشمس وأمام الناس فإن أصبنا فنسأل العزيز القدير أن يجعلها في ميزاننا يوم تلقاه وأن أخطأنا فنسأله أن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، فالأمر أولا وآخرا له وحده لا شريك له. هذا التداخل الخطير الحاصل اليوم بين الدين و"التنظيم الإسلامي" لا بد له من حسم فلقد تضرر الدين منه ولقد تضرر التنظيم الإسلامي» منه. أما ضرر الدين منه فقد جاء من تحميله كل أخطاء وتخبطات أفراد التنظيم، وأما ضرر التنظيم منه فقد جاء من هذا السياج الأدبي والمهابة الدينية وممارسة العصمة (مع نقدها في الكراسات الحزبية) وبيعة الطاعة في المنشط والمكره، كل ذلك جعل التنظيم (وهو جهد بشري محض معرض للخطأ والصواب) جزءا من الدين بحيث اختلط الأمر على الكثير فلا عدنا نعرف أين يبدأ التنظيم وأين ينتهي وأين يبدأ الدين فكانت المغالطة: مثلما أن الدين لا نقبل نقده فكذلك التنظيم. ولأن التنظيم صار لا يقبل النقد أو صار فوق النقد كممت الأفواه واعتقلت العقول والإرادات والآراء والاجتهادات (حتى الشرعية منها وبالأخص حول موضوع البيعة) ووسد الأمر إلى غير أهله. وهذه رابعة.
فلسفة النقد الذاتي:
إن النقد الذاتي عملية جديدة على "التنظيم الإسلامي" المعاصر ولذلك فقد تثير من ردود الأفعال في الساحة الإسلامية ما قد لا تثيره في غيرها من الساحات ورغم ذلك فهي عملية ضرورية: شرعًا وسياسة ومنهجا ومصلحة، يقول د. خالص جلبي في كتابه القيم [في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية]. مؤسسة الرسالة ـ بـرسالة - بيروت - 1984 ص 164:
إن النقد الذاتي حركة ديناميكية حية متطورة نامية وأداة إنضاج للوعي. إن هذه الأداة سترافق الإنسان حيث أعمل عقله، سواء في رؤية برنامج تليفزيوني، قراءة قصة، تناول بحث، فك علبة طبخة، ركب سيارة، إنها أداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقى نشطا حيا. إنها أداة يقظة للوعي الداخلي، وتطهير أخلاقي في مستوى الفرد، وهي بناء أسرة متماسكة، والعيش في جو جماعة صحي وتطهير للوسط السياسي من الإرهاب والتسلط وبناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية.
ويؤكد د. جلبي إن مفهوم النقد الذاتي يعتبر غريبا على المسلمين (المعاصرين) فهم لا يرون فيه مصطلحا إسلاميا ولا يفهمون تحته إلا التشهير وهذا يجب تعديله. فطائفة منهم ترى أنه مصطلح غير إسلامي لأنه لم يأت في كتب ابن تيمية والشوكاني وابن القيم وغيرهم، أو لم يرد باللفظ في الحديث أو القرآن وكأن كلمة الضمانات الاجتماعية جاء بها الحديث أو تكررت في عدة سور؟ فإما أن اللفظ لم يرد بنصه الحرفي في الحديث أو القرآن فهذا صحيح، ولكن الألفاظ والمصطلحات هي ليست كل شيء وإنما ما تحمله من مفاهيم. فالأصح إذن هو عموم مفهوم القرآن وروحه واتجاهه، فالعبرة هي بالفكر الذي يدور بين نصوصه. فمفهوم النقد الذاتي بمعنى مراجعة النفس أو النشاط فرديا كان أو جماعيا، ثم محاسبتها هو روح القرآن المكثفة. فالآية القرآنية "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (القيامة: 2) فيها معنيان الأول: العملية والثاني: تشكل الخلق في هذا الصدد، فهي أولا عملية مراجعة محاسبة ولوم نفس، ويقسم الله فيها لأنها مستوى عظيم في وصول الإنسان إليه وهي ثانيا لفظة تشديد «لوامة» أي أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقا وعادة وطبعا تطبعت عليه بمعنى أن ممارسة النشاط أصبح مرتبطا بشكل عضوي بهذه العملية.
افتقاد روح المراجعة والوعي الموضوعي بالذات:
خذ مثلا فصيلا من فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة كالإخوان المسلمين (تأسس في 1928) فرغم مرور ما يربو على الستين عاما لهذه الجماعة لا نجد في المكتبة العربية كتابا واحدا أصدرته الجماعة - من حيث هي جماعة - أي رسميا وباسمها لا باسم أفراد بتناول بالتقويم الموضوعي هذه الفترة الطويلة من العمل والزمن والتحرك.
حركة بهذا الاتساع الزماني والمكاني (للإخوان تنظيمات في معظم الأقطار العربية الإسلامية). أليس من المطلوب أن تقدم للأمة التي تتحرك في إطارها تفسيرا رسميا لسلسلة المحن التي مرت بها ولحلقات الإخفاق التي تكررت في تاريخها وصورا عن النجاحات التي حققتها ودورها - كما تراه - في حاضر الأمة ومستقبلها وأهدافها الاستراتيجية التي تروم تحقيقها وما هي المراحل التي قطعتها صوب تلك الأهداف وكم بقي من المراحل التي تروم تحقيقها وكم بقي من المراحل لكي تصل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية وما هي آليات وسبل الانتقال من الأوضاع الراهنة بما تنوء به من مشكلات وتناقضات إلى الآفاق الجديدة التي تبشر بها إذ لا قيمة ولا فعالية ولا إيجابية للتصورات والرؤى الاستراتيجية ما دام لا يرافقها وضوح مواز للدروب والآليات الانتقالية؟ أليس من المؤسف أن تفرز قوى سياسية غير إسلامية (محلية ودولية) اللجان والمكاتب والأجهزة والأضابير والأراشيف والاختصاصيين لرصد التيار الإسلامي ومدارسه ورموزه وتحركاته وغير ذلك وتنشر بعض الدراسات المهمة والغنية والقيمة التي بدى الإسلاميون يقبلون عليها لإشباع جوعتهم لتفسير ما هم فيه، وفي الوقت نفسه لا نجد جهدا يبذل من الحركة في هذا الإطار؟ إن كتابة التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية بأسلوب موضوعي وعلمي مسؤول الصادر من الحركة وباسمها مهم للغاية في إطار كوادرها وأنصارها وهو مهم للمراقبين والمحايدين الموضوعيين الذين يهمهم معرفة الحقائق كما حدثت وتطورت وهو مهم للعالم أجمع لكي يعرف العالم أن هذه الحركة تخاطبه وتناشده وتعرض ما عندها عليه بعلمية وموضوعية ودون اعتساف وهو مهم للمستقبل كي لا تقع الأجيال المسلمة المقبلة فيما وقعت فيه الحركة الإسلامية من أخطاء لا تقع على صعيد التجمع أو الفكر أو الحركة. وإن عدم صدور التاريخ الرسمي للحركة دليل ثابت على افتقاد روح المراجعة والوعي الموضوعي بالذات لديها وتلك ثغرة خطيرة نرجو أن تنبه الحركة لها.
غورباتشوف رجل يقف على قمة دولة تتحكم في كتابة من الدول تتوزع على نصف الكرة الأرضية وزعامة حزب قام بثورة منذ 1917 ها هو بكل وضوح وصراحة يقول في كتابه (بيريسترويكا) أي عملية إعادة البناء واصفا الحال في الاتحاد السوفييتي كما يراه هو:
نجد أنفسنا أمام المفارقات فمن ناحية حل مجتمعنا وبنجاح قضايا تأمين فرص العمل وقدم الضمانات الاجتماعية الأساسية، ومن ناحية ثانية لم نتمكن من تحسين ظروف المسكن وتأمين الموارد الغذائية كما وكيفا وكذلك تنظيم عمل وسائط النقل وفق المستوى المطلوب. وتحسين الخدمات الطبية والتعليمية.
أخذ ينشأ وضع غير معقول، إنتاج ضخم من الفولاذ والمواد الخام والطاقة والوقود لا مثيل له في العالم، وفي الوقت ذاته نقص في هذه المواد بسبب التبديد وقصور الاستخدام لدينا أكبر عدد ممكن من الأطباء وأسرة المستشفيات بالنسبة لكل ألف مواطن ومع ذلك نعاني نواقص خطيرة وتدنيا في مستوى العناية الصحية وصواريخنا تشق طريقها بدقة متناهية نحو مذنب هالي وتسرع لموعدها مع كوكب الزهرة، ولكن رغم هذا النصر للفكر الهندسي والعلمي فإننا نلحظ تخلفا واضحا في استخدام المنجزات العلمية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية.
إن عرض الواقع (خاليا من المشاكل) قد ارتد إلى نحر أصحابه هوة بين القول والفعل ساهمت في تكريس السلبية الاجتماعية وعدم الإيمان بالشعارات المطروحة. ومن الطبيعي أن تهتز الثقة في وضع كهذا بكل ما يقال من فوق المنابر وعلى صفحات الجرائد والكتب المدرسية. وبدأ الانهيار في الأحاسيس التي أرساها زمن الثورة البطولي وسنوات الخطط الخمسية الأولى والحرب الوطنية وفترة الانبعاث فيما بعد الحرب. وارتفع تعاطي الكحول والمخدرات والجريمة كما ازداد تغلغل الأنماط الثقافية الهابطة الغريبة عن المجتمع السوفييتي والتي تكرس الابتذال والذوق الوضيع والخواء الروحي.
أما الاهتمام الحقيقي بالناس، بشروط حياتهم وعملهم ومزاجهم الاجتماعي فغالبا ما كان يتم استبداله بالنفاق السياسي والتوزيع الجماعي للمكافآت والألقاب والجوائز. وتراكمت حالة عامة من التغاضي وتدني مستوى حث الجماهير والانضباط والشعور بالمسؤولية. وقد حاولوا التستر على ذلك كله عن طريق الاحتفالات الاستعراضية وتكرار المناسبات اليوبيلية، وشيئا فشيئا اتسعت الفجوة بين عالم الحقائق اليومية وعالم الازدهار الاستعراضي. ولم يكن بمقدور العديد من المنظمات المحلية أن تحافظ على مواقعها المبدئية وأن تخوض نضالا حازما ضد الظواهر السلبية وضد استباحة الأشياء والتستر المتبادل وإضعاف النظام. وتكررت حالات انتهاك مبدأ المساواة بين أعضاء الحزب واستثنى من دائرة الرقابة والنقد العديد من الشيوعيين الذين يحتلون مراكز قيادية الأمر الذي أدى إلى إخفاقات في العمل ومخالفات خطيرة.
تعليق إذا كان (غوربي) يقول هذا الكلام، فماذا نقول نحن إذن؟
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://asmaanawar.pse.is/5wzr8h