الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (3)
بقلم: دكتور/ عبدالله النفيسي - أستاذ العلوم السياسية
ماذا ستفعل الحركة بجموعها الكبيرة؟
ظاهرة التضخم الكمي المتسارع:
ظاهرة التضخم الكمي المتسارع تطرح على الحركة الإسلامية سلسلة من الإشكاليات التي ينبغي الشروع في التصدي لها بالجدية المطلوبة. فإقبال هذه الجموع الكبيرة من الشباب دون الاستعداد الكافي لاستيعاب مواهبهم وقدراتهم ومهاراتهم وتوظيفها التوظيف الصحيح في اتجاه (المشروع الإسلامي) كمن يحاول أن يعبر بحرا أو نهرا دون أدنى معرفة بمبادئ السباحة فلا شك أن في ذلك مخاطرة كبيرة. لقد طرح الأستاذ راشد الغنوشي قائد حركة الاتجاه الإسلامي في تونس هذا التساؤل الكبير لينبه الحركة الإسلامية لمشكلة كبيرة، يقول:
بعد إقبال الجموع الكبيرة عليها ماذا ستفعل الحركة بهذه الجموع وكيف توظفها في خطة التغيير الحضاري حتى لا يغدو عملها الجمع والتكديس من دون البناء؟
ويضم د. حسن الترابي قائد الجبهة القومية الإسلامية في السودان صوته لصوت الأستاذ راشد الغنوشي ليقولا معا في كراسة مشتركة: «يجب إيجاد مجالات لتفريغ طاقات الشباب الذين تملأهم الحركة بالحماس، لأنه إن لم توجد هذه المجالات تعرضت الحركة لكثير من الانحرافات ليست ظاهرة التكفير والهجرة إلا نتيجة لعمل إسلامي لم يوجد مجالات للتغيير في المجتمع، كالنهر المتدفق الذي ينساب في جوانب مختلفة إذا لم يشق الطريق أمامه، انظر الترابي والغنوشي الحركة الإسلامية والتحديث، دار الجيل، بيروت 1980، ص . 39- 38
لا أكون مبالغا إن قلت إن هذه من أكبر المشاكل التي تواجه الحركة الإسلامية في عمومها: تضخم الكم المتسارع مع غياب المؤسسات الحركية لاستيعابه. وتتميز هذه المشكلة عن بقية المشكلات التي توجه الحركة الإسلامية أنه من الصعب إلقاء اللوم على الأطراف الأخرى (غير الإسلامية في توجهها) بكونها سبب المشكلة أو المتسببة بها. هذه مشكلة نتجت عن سببين لا ثالث لهما: أولهما جاذبية الشعارات الإسلامية التي ترفعها الحركة الإسلامية، وثانيهما عجز الحركة الإسلامية ومؤسساتها الحركية عن استيعاب وتوظيف هذه الأعداد الكبيرة من الشباب استيعابا وتوظيفا عمليا وموضوعيا. فنجاح الشعارات وجاذبيتها يطرح دائما مسؤوليات كبيرة على من يطرحها فإن نجح في الارتفاع إلى مستواها حقق مزيدا من النجاحات وإن فشل في ذلك عرض رأس ماله الحركي لكثير من المراهنات والمغامرات. ولأن شعارات الحركة الإسلامية جذابة، بالإضافة لوجود شبكة كبيرة متفاعلة من العوامل الموضوعية التي تصب في مجرى التدين (الإسلامي وغيره) في العالم المعاصر، لهذه الأسباب نجد هذه الجموع الكبيرة المقبلة على الحركة الإسلامية إقبالا لفت أنظار كل المراقبين السياسيين المنشغلين في ساحة الوطن العربي والإسلامي، ومن دون شك أن هذا الإقبال المتزايد من جانب الشباب على الالتزام أولا بالإسلام كإطار مرجعي ودليل نظري وكسلوك فردي وجماعي وثانيا على الانتماء للحركة الإسلامية والانخراط في صفوفها، أقول لا شك أن كل هذا يطرح على كاهل الحركة الإسلامية مزيدا من الأعباء والمسؤوليات تجاه هذا الشباب في إطار توظيفه في مجالات تصب في النهاية لصالح (المشروع الإسلامي) الذي تتبناه الحركة.
من المدنس إلى المقدس:
ما الذي يحدث للشباب الذي ينضم اليوم للحركة الإسلامية وينتمي حركيا لها (وربما هذا حاصل في كل الحركات والأحزاب الإسلامية منها وغير الإسلامية). إذا كان الشباب يعتقد بانتمائه أنه قد وصل إلى جزيرة الخلاص وأنه انتقل من الخارج المدنس إلى الداخل المقدس فسوف يكتشف - بعد نضوب العاطفة والحماس - ظواهر ويحتك بشخوص ويمر بتجارب تجبره على إعادة النظر في مجمل وضعه الانتمائي وليس الالتزامي. هنا تبرز الفروق الفردية فإن كان الشاب قليل الحساسية وبطيء الاستجابة للمثيرات الفكرية والثقافية والمنهجية وقليل التساؤل والكلام منخرطا في ظروف خاصة تستفرغ لديه كل طاقات التساؤل والقلق ويجد في الجماعة إشباعا عاطفيا، أو أمنا اجتماعيا، أو ظهرا معيشيا، أو غير ذلك، فلديه إذن أكثر من مبرر للمكث مع الجماعة. هذا النوع من المنتمين - إذا كثر - يصبح مع مرور الوقت عبئا على الجماعة لا عونا لها ورقما سالبا في آليتها وديناميتها وثقلا على الجماعة أن تحمله في درب طويل. ليس من شك أن هذا النوع من المنتمين يصلح فقط للعمل (التنفيذي) ويمكن تصنيعه أفلاطونيا على أنه من (أهل الحديد وحملة المحاريث). لكن حتى الحديد - على بأسه - إذا قلت حركته وتراكم بعضه فوق بعض فإن الصدأ يصيبه ويأكله ويجعله كالهشيم الذي تذروه الرياح. الحل الوحيد هو تكثيف العمل (التنفيذي) واستحداثه وتنويعه وتجديده وتطويره وإلا بات عملا نمطيا رتيبا مملا لا حياة فيه ولا جدة. وإذا فشلت الحركة في توفير التكاليف التنفيذية لهذا النوع من المنتمين تحول الورم الحميد إلى ورم خبيث ينبغي استئصال شأفته قبل التورط في الدائرة الشريرة للكورتيزون والكيموثيرابي. وإذا كان الشاب من (الشخصيات القلقة) على حد تعبير د. عبد الرحمن بدوي (بالمناسبة يدرج د. بدوي الشيخ أبو حامد الغزالي صاحب «إحياء علوم الدين» ضمن شخصياته القلقة أقول إذا كان الشباب كذلك فسوف تثيره كثيرا الأوضاع السلبية في الجماعة ويبدأ يتذمر ولا مجيب وينقد ولا مستوعب وبعد أن يضيع الأذان في مالطا يصيبه نوع من (التنافر الوجداني الإدراكي Cognitive dissonance) كما يسميه علماء النفس، فهو يحب ويميل للحركة الإسلامية، ولكنه غير مقتنع بها، فيضطر مع ذلك لمسايرتها دون اقتناع بها. هذا التنافر الوجداني يعاني منه هذا الضرب من الشباب يدفعهم للبحث عن رفقائهم السيكولوجيين - أي الذين يعانون من المشكلة نفسها فتتشكل بذلك (الجيوب الحركية) أي الشلل المتبرمة التي تجتمع عادة في مجالس خاصة بها لكي يستزيد الفرد بالتعبئة المعنوية والأدبية المطلوبة. وتظل هذه الشخصية القلقة ضمن إطار الجماعة الإسلامية دون أن تتاح لها الفرصة للتعبير عن مكنوناتها ومع مرور الوقت تتضخم (الكتلة الحرجة) في بطن الجماعة وتكثر الضوضاء في الداخل. أما إذا كان الشاب من نوعية (الحارث بن سريج) ذلك الذي ثار وراء (نهر جيحون) ضد الأمويين بعد أن بلغ انحرافهم ما بلغ في إساءة استعمال سلطتهم أقول إذا كان الشاب من هذه النوعية فعلى الجماعة أن تتوقع الانقسامات والانشقاقات كما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر فمعظمهم الجماعات الإسلامية المتواجدة في ساحة مصر قد خرجت من تحت عباءة الإخوان بعد أن فشل الإخوان في استيعاب هذه القوى الإسلامية الجديدة (هذا ينطبق على جماعة الجهاد وجماعة المسلمين وغيرهم).
للمزيد انظر مقال: تقديس الأشخاص
مدرسة الضبط والربط:
ينبغي أن تتنبه الحركة الإسلامية لهذه الثغرة وأن يعي قادة الحركة وزعماؤها أن الأمر أعقد بكثير من (الضبط والربط) فنحن لا نعالج (مخيما كشفيا) ولا (ثكنة عسكرية) إنما نعالج أوضاع جماعات أن ينبغي تتمتع بالصحة النفسية والفكرية والمنهجية لكي تؤدي أدوارها الاجتماعية بشكل إيجابي يخدم الصالح العام للمجتمع الأوسع. ولا يحل هذه المشكلة (الأمر والنهي) والزجر والإجراءات العقابية والتصويت على ذلك وحث الأنصار على مقاطعة فلان وعلان من الناس أو الامتناع عن قراءة الكتاب الفلاني وغير ذلك من الإجراءات التي يظن (بالضم) أنها تحقق التلاحم أو الانسجام في داخل (التنظيم الإسلامي). إن المشكلة أعقد من ذلك بكثير. وتتطلب وقفة علمية موضوعية تشريحية وتشخيصية تغوص إلى العمق وتسبره. أولا لا بد أن تدرس الحركة العلاقة بين الالتزام الديني والانتماء الحركي: هل كل ملتزم دينيا يصلح لكي يكون منتمياً حركيا؟ لا أزعم أني أملك الإجابة على هذا السؤال الكبير لكن ما أود أن أقوله ومن خلال التجربة والمراقبة والتحديق للظاهرة الحركية الإسلامية أن العمل الحركي يستلزم وعيا حركيا من الحتم عدم توفره في كل متدين. لذلك أقول بشيء من الثقة الانتماء الحركي يتطلب مسبقا الالتزام الديني، غير أن الأخير لا ينتج عنه الأول بالضرورة. وحتى في حالة اكتشاف القابليات الحركية لدى المتدين لا بد أن تكون النقلة بين الالتزام، والانتماء، واعية، ومدروسة. من هنا نقول لا بد من إعادة النظر في (سياسات التجنيد) والاستقطاب بحيث لا تصبح العملية مجرد عملية (ضم) أو (سلم نفسك) كما يقول دائما أحد أقطاب الإخوان في مصر سامحه الله.
التكوين الأيديولوجي:
من أهم القضايا المطروحة اليوم في الدراسات التي تتناول الأحزاب والجماعات هي قضية التكوين (الأيديولوجي) للأعضاء ويرتبط بذلك أيضا عموم الوضع الثقافي في الحزب أو الجماعة. ومن الواضح أن الحركة الإسلامية لم تعط هذا الموضوع الأهمية المطلوبة فليس هناك عناية على الإطلاق بتكوين الموجهين (الفكريين الذين يشرحون (عقيدة الحركة وتصوراتها ويفسرون مواقف الحركة وتاريخها عبر مراحله. هناك عدد من (الخطباء) الذين يعتنون بالشعر أكثر من الفكر وبإبكاء سامعيهم أكثر من تفهيمهم وتوعيتهم. ودون أدنى خدش لمكانة هؤلاء الخطباء أقول إنهم ليسوا بقادرين على عملية التكوين الأيديولوجي لأعضاء الحركة الإسلامية. من هنا نقول أن على الحركة الإسلامية أن تعتني بتكوين فرق من الموجهين الفكريين الذين يشرحون عقيدة الحركة وتصوراتها ويفسرون مواقفها وتاريخها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن تضبط) خطباءها في إطار متفق عليه من الكلمة الطيبة والدعوة بالحسنى بدل الحاصل من بعضهم. ومن الأمور الملاحظة في هذا الصدد غياب البرامج الثابتة في مجال التكوين الثقافي والأيديولوجي للأعضاء وضعف المبادرة والتتبع الثقافي لديهم، وهذه وضعية لم تنتج من فراغ بل كانت وليدة حالة عامة من الخمول الثقافي والفكري في الحركة. كذلك هناك ميول تجريدية في فهم العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية تركز على فهم الإسلام كدين عبادة وتكاليف عبادية أكثر من كونه نظاما اجتماعيا وتوزيعيا للنفوذ والثروة، أي أن قراءة الحركة للإسلام باتت تُشَدِّد على الدين والمعتقد أكثر من النظام والنهج والكيانية الإسلامية المنشودة. من هنا بدأ ظلم الأولويات في الطرح والمناقشة والدعوة يرتبك ويتزلزل.
للمزيد انظر: غياب التفكير المنهجي
ثم إن الإمكانات الثقافية في الحركة غير منسقة في خطة يشرف عليها جهاز للإشراف الثقافي كشأن الأحزاب والجماعات المتقدمة في العالم المعاصر. والثقافة الحركية التي تناط بحركة أو حزب ما، ليس المقصود بها الثقافة العامة وحدها. فالمثقف قد يتقدم في الدرجات العلمية لكنه قد يتأخر في الثقافة الحركية التي نقصد، فالثقافة الحركية تختلف عن الثقافة العامة من عدة وجوه: فهي سياسية تتطلب وعيا للواقع السياسي والتيارات والمدارس السياسية المتفاعلة فيه. والهدف من هذه الثقافة السياسية تكوين منطق سياسي موحد يحلل الأوضاع والظروف على ضوء (عقيدة الحركة). وهي تنظيمية تتطلب وعيا لمهمات الحركة الإسلامية وتركيزها التنظيمي والإداري والقيادي واللائحي والمؤسسي. وهي شعبية تعنى بقضايا الشعب الحيوية واليومية الاقتصادية والاجتماعية. ولأن الحركة الإسلامية أهملت التكوين الثقافي والفكري والأيديولوجي لأعضائها لجأ الأعضاء لأسلوب التثقيف الذاتي ولهذا الأسلوب مخاطره الكبيرة على الجهة الأيديولوجية للحركة. إن التثقيف الذاتي في إطار التكوين الأيديولوجي العام للحركة قد يكون من العوامل المنشطة ثقافيا، غير أنه في غياب هذا التكوين قد يصبح قنبلة ثقافية - حركية مع مرور الوقت، ومع ذلك فمن الأفضل تنشيط نزعة التتبع الثقافي لدى الفرد بدلا من كبحها وتجاهلها وأحيانا تسفيهها كما هو حاصل لدى بعض التنظيمات الإسلامية.
دور الاختصاص:
تضم الحركة الإسلامية نخبة جيدة من الاختصاصيين إلا أن قيادة الحركة - في العموم - لا تدرك أهمية هذه الميزة، دع عنك توظيفها التوظيف المطلوب. ففي إطار الحركة هناك: الاختصاصي في الاقتصاد والإرشاد النفسي والإعلام والطب والمجتمع والصناعة الثقيلة وتلويث المياه والزراعة والمفاعلات النووية وطب الأطفال وتربيتهم وغير ذلك من الاختصاصات المهمة. هل لدى الحركة برنامج للاستفادة من هذه الخبرات والاختصاصات؟ لا يبدو ذلك لأن كل الذي تطلبه الحركة منهم هو دفع الاشتراك وحضور اجتماع أسبوعي (الأسرة) لاجترار (منهاج ثقافي) ربما يصلح لتأهيل الفرد ثقافيا للعصر العباسي لكن بالقطع لا يصلح لتأهيله ثقافيًا للقرن العشرين. إن قيادة الحركة الإسلامية تتعامل مع الاختصاصي والأمي بالطريقة نفسها، أليس الناس سواسية كأسنان المشط؟ ما عدا نجوم المال فأسنان المشط الذي يستعملونه تختلف عن الذي ورد في نص الحديث كما يبدو. نجم المال هو الاختصاصي الوحيد الذي يحظى باحترام وتبجيل قادة الحركة ومن المؤسف أن نجوم المال ورجال الأعمال أصبحوا من خلال هباتهم ومنحهم للحركة ـ يساهمون بدرجة ملحوظة في توجيه الحركة والتحكم بشبكة علاقاتها السياسية في كثير من الأحيان. ومن الطبيعي أن نجوم المال وارتباطاتهم التجارية ومعها السياسية تفرض بعض الأولويات التي قد تستلزمها التجارة ويتم فرضها على الحركة دون معرفة من القواعد ويكون بذلك التحكم بمسار الحركة وفق مقتضيات المصالح العليا لطبقة الوكلاء والمستوردين. إن من يلاحظ ويراقب لهجة بعض المجلات التي تعبر عن لسان حال بعض التنظيمات الإسلامية وتفسيراتها للأزمات الاقتصادية والسياسية وتأجيجها لبعض القضايا الهامشية وتعتيمها على بعض القضايا الجوهرية لا يحتاج لكثير من الذكاء لكي يرفع أصابع الاتهام لبعض نجوم المال الذين صاروا أثقل في ميزان الحركة ومعيارها من كافة الاختصاصيين بشتى خبراتهم وراياتهم. وهذه ثغرة لا ينتبه لها إلا القليل على خطورتها ولقد وسع من خطورتها افتتاح شبكة من البنوك الإسلامية عززت من تواجد ونفوذ نجوم المال في أجهزة توجيه الحركة والتحكم بمسارها.
تظل مشكلة التضخم الكمي المتسارع من أخطر المشاكل التي تواجهها الحركة الإسلامية ومن أخطر الثغرات في طريقها الطويل. ولكي تحل الحركة هذه المشكلة وتسد هذه الثغرة لا بد أن تعيد النظر في (سياسات التجنيد) لكي تقضم ما تستطيع أن تهضم أما (نهش السباع وقضم الضباع وخضم البراذين) الحاصل فلا يستقيم به الأمر وينبغي إعادة النظر في التكوين الأيديولوجي والوضع الثقافي عموما في الحركة قبل أن تتحول الحركة إلى صحراء للفكر والثقافة والأيديولوجيا وتختلط بذلك الخطوط والمعايير والمقاييس ويصبح (نجم المال) هو ربان السفينة فتملى (بالضم) مقتضيات التجارة والربح السريع على مسارات الحركة وبرامجها. وينبغي كذلك إعادة النظر في وضعية هذه الجموع الكبيرة من الاختصاصيين واستثمار خبراتهم لأجل المصالح العليا للدعوة الإسلامية بدلا من صحراء النسيان التي يعيشون فيها وقبل أن تتلقفهم الجهات العديدة التي تقدر ما لديهم من خبرة ومهارة وموهبة.
مطلوب عقد مؤتمر عام لتقييم الأداء
وتحديد الأهداف البعيدة والقريبة
المؤتمر العام: نهج الحركات الحية:
درجت الحركات والأحزاب والجماعات والنوادي الاجتماعية وفئات الضغط (بأنواعها) والنقابات والروابط الطلابية على عقد مؤتمرات عامة لمناقشة العديد من القضايا المتعلقة بأنشتطها وتقييم أدائها وتحديد الأهداف (البعيدة والقريبة) على ضوء المستجدات والطوارئ التي تعترض طريقها واقتراح البدائل الحركية المتاحة وإجراء التطويرات الداخلية للمواءمة وتجديد الدماء والهواء وتوفير ظروف موضوعية أفضل لأداء أفضل ونتائج أفضل، حتى زراع البطاطا والبصل والشمندر شكلوا روابط واتحادات وعقدوا مؤتمرات سنوية للبحث في شؤون البطاطا والبصل والشمندر وذلك لدعم الأبحاث المخبرية لتحسين هذه المحاصيل من ناحية الجودة والكمية وتوفير فرص تسويق أفضل وغير ذلك، لقد أصبح (المؤتمر العام) فكرة ونهجا وطريقة عالمية تتبناها الحركات والأحزاب والجماعات والنوادي الاجتماعية وجماعات الضغط والنقابات والروابط الطلابية وهي فرصة للمراجعة والمشاورة وإعادة النظر في سبل وآليات ودروب العمل وتقييمها وفحص الأداء في عمومه، وقد وجدت تلك المؤسسات الحركية البشرية فائدة كبيرة في تلك المؤتمرات واللقاءات إذ صححت - من خلالها - الكثير من الأخطاء والسياسات وتوصلت لاجتهادات جديدة في العمل دفعت تلك المؤسسات نحو فاعلية أكثر، إن معظم الدفعات القوية والانطلاقات المهمة التي حققتها كبريات الحركات الاجتماعية والسياسية في التاريخ الحديث إنما تقررت في مؤتمراتها العامة، و من الملاحظ في تاريخ الحركات الاجتماعية والسياسية في التاريخ الحديث أن (القيادة) المطمئنة لشرعيتها وأهليتها تحرص على عقد تلك المؤتمرات لتعزيز مزيد من الشرعية والأهلية، بينما نجد أن «القيادة» التي اكتنف ورافق صعودها بعض الظروف التي تثير الأسئلة حول شرعيتها وأهليتها لا تتحمس لعقد تلك الاجتماعات ولا إثارة تلك النقاشات، ونقصد بالمؤتمرات العامة تلك الاجتماعات التي يشارك فيها كافة المستويات والهيئات الإدارية والتنظيمية في الحركة وليس فقط المستويات القيادية فيها أو العالقة بها، وذلك لكي تتحقق صفة العموم فيها، وأهم ما يميز المؤتمرات العامة هو مشاركة المستويات القاعدية فيها، وتحسس نبضها وتحريضها على البوح عن المكنون.
للمزيد انظر: ركنية الحوار وأساسيته وتحديد المضغة الاجتماعية
الحركة الإسلامية وفكرة المؤتمر العام:
ومن يدرس تاريخ الحركة الإسلامية في العصر الحديث لا يلحظ اهتماما كافيا بفكرة المؤتمر العام إلا في بعض المراحل التاريخية القصيرة. ويلاحظ أنه في سنة 1932 - مثلا - انتقل المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين إلى القاهرة (تأسست الجماعة عام 1928) وأبدى مؤسس الجماعة حسن البنا رحمه الله حرصا كبيرا في تلك الفترة على عقد المؤتمرات العامة لإقرار خطط العمل والسياسات ومراجعتها، بل واستشراف ما يلزم لمواءمتها مع متطلبات المراحل المستقبلية (انظر في هذا الصدد الورقة القيمة التي قدمها أحمد أفندي السكري للمؤتمر الثالث مارس عام 1935 بعنوان "إلى أي مدى وصل الإخوان المسلمون وماذا يعوزهم؟"). حرص البنا أشد الحرص على انعقاد تلك المؤتمرات العامة فانعقد الأول في مايو 1933 والثاني في أواخر نفس العام والثالث في مارس 1935 والرابع 1937 والخامس في يناير 1939، لقد كان لهذه المؤتمرات أثرها الكبير في تكريس الشورية وتبادل الرأي والمراجعات الإدارية والتنظيمية والسياسية للقرارات وكانت فرصة كبيرة ومهمة لتحسس نبض الجماعة قيادة وقاعدة وكانت تمثل في هذه المؤتمرات كل الهيئات الإدارية للجماعة ابتداء من مكتب الإرشاد مرورا بمجلس الشورى العام الذي يتكون من نواب المناطق ونواب الفروع ومجالس الشورى المركزية ومؤتمرات المناطق وفرق الرحلات، يذكر البنا في مذكراته (الدعوة والداعية ص 175) أسماء الذين حضروا كمندوبين للهيئات الإدارية للجماعة في المؤتمر الثالث والذين قدموا من شعب (بالضم) الإخوان في المناطق التالية: القاهرة والسويس والإسماعيلية والبلاح وبور سعيد وبور فؤاد والمنزلة وبرمبال القديمة والكفر الجديد وبركة الفيل والمرج ونوى وشبين القناطر ومنية شبين والخصوص وتل بني تميم والعلوية وأبو حماد والقطاوية وكفر الدوار والوسطى وملوي فيعدد الأسماء (112) مندوبا) اشتركوا في المؤتمر ويعدد أسماء المعتذرين منهم وقد بلغوا 26 مندوبا، لا شك أن لهذه المؤتمرات فائدتها العظيمة في تقوية القناعة العامة ضمن الجماعة بقرارتها وبوحدتها الفكرية والمنهجية في التعامل مع القضايا المطروحة في الساحة، ومن يراجع المواضيع التي طرحت وعرضت على تلك المؤتمرات والمناقشات التي دارت حولها يدرك ذلك تماما.
ومن يدرس المراحل التي عاشتها الجماعة بعد مقتل البنا في 12 / 2 / 49 يلحظ غياب هذه المؤتمرات العامة ليس في مصر فحسب بل حتى في تنظيمات الإخوان في الأقطار الأخرى نزيد فنقول أن غياب هذه التنظيمات ساهم في خلخلة مراقبة القاعدة لقرارات وسياسات القيادة في الجماعة، بل أدى ذلك لوصول الكثير من العناصر التي تفتقر للأهلية والشرعية إلى سدتها مما خلق أجواء مناسبة لبروز الشللية والعصبوية والفئوية ضمن التنظيم الواحد في القطر الواحد ودون شك أن الظروف الصعبة التي مرت بها الجماعة بعد اغتيال البنا 1949 وانتقالها من حالة العلنية إلى السرية قد ساهم في ذلك أي في خلق تلك الأجواء غير الصحيحة.
العلنية والسرية مقابل الفكرة:
تثير بعض الجهات ضمن إطارات الحركة الإسلامية الاعتراضات على فكرة المؤتمرات العامة من حيث المبدأ ونستطيع تلخيص هذه الاعتراضات في التالي: (إن الحركة الإسلامية تعيش حالة من الاستضعاف البين اضطرتها إلى العمل السري وهي صيغة تتنافى مع فكرة المؤتمر العام وما يقتضيه من كشف للأوراق والخطط والدروب والآليات المتبناة، ثم إن حالة الاستضعاف والاضطهاد التي تعيشها الحركة تتطلب رصّ الصفوف وتناسي الخلافات في الرأي لما تحدثه تلك الخلافات من خلخلة في الصف وزعزعة للثقة فيه) ونرد على ذلك بالتالي:
أولا: ليست الحركة الإسلامية هي الحركة الوحيدة التي تعرضت للاضطهاد والقمع فمعظم الحركات الاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي والعربي قد تعرضت لذلك. وعاشت فترات من الاستضعاف البين (قصرت أم طالت) بل إن بعض رؤساء الجمهوريات والدول الحالية التي تحكمها أحزاب علمانية عاشوا فترة غير قصيرة من التشريد والحرمان والعوز ومع ذلك فقد كانت فكرة المؤتمر العام هي نهج تلك الحركات في كل أطوارها.
ثانيا: من قال إن صيغة العمل السري في الحركات الاجتماعية والسياسية عبر التاريخ تتنافى مع فكرة المؤتمر العام؟ ومن قال إن فكرة المؤتمر العام تقتضي كشف الأوراق والخطط والدروب والآليات للقاضي والداني ومن يعنيه الأمر ومن لا يعنيه؟ ثم من قال أن صفة (عام) تعطي هذا المعنى؟ لقد عقدت عدة حركات اجتماعية وسياسية أخطر وأهم مؤتمراتها العامة وهي في مرحلة السرية، المهم في الأمر كله المشاركة الواسعة في المراجعة والمشاورة وإقرار الخطط وإعادة النظر في التركيب الإداري للهيئات والوحدات والمستويات والسياسات وعدم ترك الأمور في يد حفنة من الناس قليلة تعد على يد واحدة بحجة السرية فإن ذلك منطق ذو نتائج خطيرة للغاية.
ثالثا: من قال إن (تناسي) الخلافات في الرأي أجدى وأنفع (لرص الصفوف) ومن قال إن مناقشة هذه الخلافات في الرأي (تزعزع الصفوف)؟ هناك فرق جوهري بين (تناسي) الخلافات في الرأي و(نسيان) الخلاف في الرأي، إذ في الأولى جهد مصطنع تفرضه بعض الظروف والاعتبارات وفي الثانية تغير الحال العام كلية بحيث يصبح الخلاف في حد ذاته غير ذات موضوع، وتطبيقا على الحركة الإسلامية نلاحظ أن الخلافات في الرأي ضمنها تتكرس يوما إثر آخر ولأن هذه الخلافات لا تناقش ولا يتم بحثها في مؤتمر عام تظل تتراكم في رحم الحركة سنوات طويلة حتى تتحول إلى ورم خبيث أو انشقاق كما حصل في مصر مثلا فمعظم الجماعات الإسلامية الناشطة اليوم هناك قد خرجت من عباءة الإخوان بعد أن فشلت الأخيرة في استيعاب خلافاتها وقمعت الرأي الآخر) في أطرها، فهل تم (تناسي) الخلافات في الرأي؟ وألم يكن من الأجدى مناقشة الخلافات في الرأي بدلا من التبجح بالحرص على وحدة الصف وهي وحدة لا نجد لها مضمونا إلا على صعيد اللفظ؟ إن الخلافات العميقة التي تبرز مظاهرها وأعراضها بين الفينة والأخرى في الحركة الإسلامية في عدة أقطار كمصر وسوريا والأردن واليمن والكويت والجزائر وإندونيسيا وباكستان وغيرها من الأقطار لا يحلها القمع والتجاهل والتسفيه، إنما يحلها الحوار والمكاشفة والنقاش والأوضاع التي لم تحصد منها الحركة سوى المر والعلقم.
ترشيد الحركة مرهون بتبني الفكرة:
كل صور التطرف والغلو في الرأي والتجمع والحركة تنتج من عوامل عدة ضمنها (العزلة) النفسية والشعورية وربما العملية التي تجعل من (الحوار) أمرا مستحيلا، إن العزلة - متى ما تحققت في واقع الفرد أو الجماعة - أحالته أو إحالتها إلى (آلة باثة) غير قادرة على (الالتقاط) بحيث يتحول تكنيك تعاملها مع الحياة تماما كطريق ذي اتجاه واحد، في هذه الحالة من الصعب تحقيق أي قدر من (الأخذ والعطاء) و(الحوار والمناقشة). ولذا نقول إن أخطر داء ممكن أن تصاب به أية حركة اجتماعية - سياسية هو داء (العزلة) ليس بالضرورة العملية بل ربما المفاهيمية والمصطلحية والتصورية والفلسفية أي (عُزلة المشروع) الذي تبشر به عن الهم العام للناس عموما، من هنا نجد أن الإسلام حرص على علاقاته حتى مع الأمم التي هزمها عسكريا وسياسيا وثقافيا لذا نجد مثلا أنه لا يجيز للمسلم المتزوج من كتابية (يهودية أو نصرانية) أن يرغمها علي ترك دينها ولا يجوز له أن يمنعها من أداء عبادتها وشعائرها بل إن بعض المذاهب ليرى أنه ينبغي أن يصحبها إلى حيث تؤدي هذه العبادات في كنيستها أو بيعتها إذا رغبت في ذلك، ولذا نجد القرآن يعزز هذا التوجه في "تسييل" المناقشة الإسلامية حتى بين الكفار والمشركين وكسر العزلة الفكرية حاضا المسلمين على المناقشة معهم: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) (وأنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) انظر .د علي وافي (الحرية في الإسلام ص .(64-63
وإذا كان الإسلام يحض على مناقشة الكفار والمشركين والتحاور معهم فكيف بالنقاش والحوار بين أبناء الدين الواحد؟ لو أخضعت الحركة الإسلامية كثيرا من مقولاتها وسياساتها ومواقفها وأوضاعها للنقاش والحوار - على الأقل وكخطوة أولى داخل إطاراتها - لحققت بذلك نتائج مهمة: أولها كسر العزلة السياسية عن باقي الحركات الاجتماعية المتفاعلة في أرض العروبة والإسلام وثانيها ترشيد الفكرة والحركة ونبذ الغلو في الرأي الذي نتج عن العزلة وثالثها بلورة المشروع الإسلامي الذي تبشر به وتعمل له. وكل ذلك لا يتحقق إلا من خلال تبني فكرة المؤتمر العام المناط به تقييم الأداء موضوعيا.
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://asmaanawar.pse.is/5wzr8h