يونيو 1, 2024

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (4)

أسماء راغب نوار | الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (4)

بقلم: دكتور/ عبدالله النفيسي - أستاذ العلوم السياسية

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (4)

ضرورة فك الاشتباك بين الدين والتنظيم

جدلية الدين والتنظيم:

التنظيم - تعريفاً - هو أداة لتحقيق الأهداف المرجوة من خلال تعاون البشر. ومن المهم في هذا الصدد أن نضع خطاً عريضاً تحت كلمتي: أداة وبشر. التنظيم إذن ليس هو غاية في ذاته إنما هو أداة لتحقيقها. والتنظيم بما أنه (جهد بشري) اجتهادي فهو معرض للخطأ والصواب. وكل جماعة بشرية - تحت أي مسمى تشكلت [ دولة - جيش - مؤسسة - شركة - حزب - فريق رياضي - مستشفى - الخ] هي بحاجة لصيغة التنظيم الفعال الذي من خلاله تتحقق الأهداف المرجوة لتلك الجماعة البشرية. ولأن هذه القضية باتت تمس مستقبل المجتمعات البشرية جمعاء نشأ ما يمكن أن نسميه بـ (الفكر التنظيمي) وموضوعه - في الأساس - البحث عن صيغة التنظيم الفعال الذي أشرنا إليه سابقًا. وهم يبحثون عن هذه الصيغة انقسم علماء الفكر التنظيمي إلى ثلاثة أقسام: الكلاسيكيون يرون أن الحل هو في التصميم الميكانيكي للتنظيم الذي يعتمد على التخصص وتقسيم العمل والإشراف المباشر وتحديد التبعية الرئاسية والتدرج الرئاسي. وأوضح أن هذا النمط من التنظيم يقوم على فلسفة السيطرة على البشر أي على مقولة إن النجاح التنظيمي مرتبط في الأساس بالقدر الذي تتم فيه هذه السيطرة السلوكيون يرون أن صيغة التنظيم الفعال غير مرتبطة بالتصميم الميكانيكي للتنظيم ولا بموضوع السيطرة على الأعضاء، بل مرتبطة بـ (الفرد) العضو: دوافعه وحوافزه وقناعته، وعلاقاته القيادية، ومستواه العام، وظروفه. فكيفما يكون حال موقف متطلباته التنظيمية وصيغته في التنظيم الفعال فتنظيم جيش في حالة السلم يختلف عن تنظيم نفس الجيش في حالة الحرب، وتنظيم وكالة لتوزيع السلع التموينية يختلف عن تنظيم سجن وهلم جرا لكل موقف متطلبه التنظيمي [ انظر د. سيد الهواري في كتابه (الهياكل والسلوكيات والنظم)] هكذا نجد أن (التنظيم) صار علمًا له مدارسه ونظرياته وكتابه (بالضم) وأطروحاته وفلسفاته موجودة في كتابات دونيللي وبيرو ومارش وماكناللي واميتاي ايتزيوني وارجريس وليكرت وكوتر وتوسي وموني وماكس ويبر وغيرهم. وهو علم بشري اجتهادي وليس منزلا يختلف فيه البشر يصيبون ويخطئون ولا غبار على الإطلاق على الاختلاف فيه لأن الاختلاف من طبيعة البشر: الاختلاف في الرأي والتصور والذوق والمستوى والثقافة والإحاطة والدوافع والحوافز والمحركات والظروف والملابسات.

الدين الإسلامي من جهة أخرى يختلف في مصدره وموضوعه وآفاقه وإطاره عن (التنظيم). أما المصدر فهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ سورة الأنعام : [59]. والذي يعلم كل شيء يتنزل دينه - إذن - على أكمل ما يكون الحرام بين، والحلال بين، والهداية التي يرسمها والخط الذي يحدده لا شك أن الفلاح في نهايته. أما موضوع الدين الإسلامي فهو (الإنسان): استقامته ونجاحه وسعادته مقابل اعوجاجه وخسرانه وشقائه. ولذلك نجد أن البحث الرئيسي في القرآن الكريم والخط الأيديولوجي العام في سوره يؤكد أن النظريات الإنسانية التي حادت عن الفطرة وشذت عن الحياة لن يحقق الإنسان من ورائها إلا هلاكه وفناءه وفساده ولذا فليس أمام الإنسان إذا ابتغى النجاة والفلاح والنجاح إلا أن يتبع منهج الله سبحانه وتعالى كما جاء منزلا في كتابه (القرآن الكريم) ومترجما في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. هكذا نجد أن الدين الإسلامي مصدره الله سبحانه وتعالى ودليله النظري (القرآن الكريم) الذي نؤمن بأنه كلام الله تنزل على مدى 23 عاماً وتلقاه محمد صلى الله عليه وسلم. من هنا نعي ربانية الدين الإسلامي وحدود التعامل الفكري والنظري معه على خلاف موضوع التنظيم من حيث هو موضوع فيحوز الانطلاق بلا قيود خلال مناقشة شؤونه نظراً (البشرية) الموضوع وعدم كمال مصدره. ولذا نجد أن الفقهاء حين يتحدثون عن القرآن وعلومه والسنة وعلومها يفعلون ذلك بحذر بالغ، بينها عندما يتناولون المواضيع الأخرى التي تدخل ضمن اهتماماتهم يفعلون ذلك بعفوية ظاهرة، وسبب هذا الأمر إدراكهم الحساسية وحدود ودقة الحديث في الموضوع الأول مقابل الحديث في الموضوع الثاني.

للمزيد انظر مقال: تقديس الأشخاص

الحد الفاصل بين الدين والتنظيم:

من الواضح إذن الحد الفاصل بين موضوع (التنظيم) وموضوع (الدين)، فالتنظيم جهد بشري محض معرض للخطأ والصواب، بينما الدين الإسلامي منهج رباني تنزل من لدن الله في كتاب ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَطِل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ فصلت: 42. ما يقرره (التنظيم) ليس فرض عين على المسلم، أما مقررات الدين الإسلامي (وخاصة الأركان الخمسة) فهي فرض على المسلم يأثم إذا ما قصر فيها ويخرج حتى من الملة إذا جحد بأحدها لنضعها على ( بلاطة) كما يقولون ونقول: لا يدخل المسلم جهنم ويحرم من الجنة إذا امتنع عن الدخول أو مبايعة (التنظيم الإسلامي) بينما ذلك وارد - إلا من رحم ربي - لكل ممتنع عن الدخول في دين الله والتقيد بحلاله و حرامه، جل ما أريد أن أذهب إليه هو أن (التنظيم) رأي يمكن القبول به ويمكن رفضه ولا ينبني على ذلك نجاة المسلم أو خسرانه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بينها (الدين) فرض وليس رأيا، وهو فرض ينبني عليه نجاة المسلم أو خسرانه في هذه الدنيا أو في الآخرة.

ومن يُحَّدق في الظاهرة الحركية الإسلامية ممثلة بـ ( التنظيم الإسلامي) ويقرأ أدبياته ونشرياته ونظمه الأساسية ولوائحه الإدارية وتصريحات قادته وتلميحاته ويجلس مستمتعًا لبعض (شيوخه) يلمس أن ثمة خلطًا حاصلًا بين موضوع (التنظيم) وموضوع (الدين) بحيث نستطيع القول إن الحد الفاصل بينهما لم يعد واضحاً لدى كثير من أبناء الحركة الإسلامية بشتى تنظيماتهم وهنا مكمن الخطر: الخطر على الدين وعلى التنظيم وعلى المجتمع الأوسع الذي يتفاعلان فيه. أما الخطر على الدين فينشأ من تحميله كل أخطاء التنظيم (وهذا أمر محتمل وحاصل) فكم من تنظيم إسلامي أخطأ وتخبط وبرر خطأه من خلال النص الديني) وفي هذا تشويه للنص ولمقاصده، وهذا ينعكس سلبًا للأسف على (صورة) الدين في (العقل العام) ويفتح مجالا واسعًا لكل مشكك في الدين الإسلامي ومقرراته الرئيسية. وأما الخطر على التنظيم فينشأ من (دينيته) والتصاقه الدائم وربما (اختبائه) وراء (النص) مما يجعل له هيبة دينية لمن يدخله تماماً كالهيبة التي نشعر بها عندما ندخل المسجد. هذه الهيبة تعطل وتشل روح المساءلة داخل التنظيم وروح الحوار وروح المراقبة وتكرس روح الاتباع والانصياع والتغاضي. وبذا تتراكم الأخطاء دون تصحيح وتنتفش الممارسات الشاذة دون تقويم ويتردد المصلحون في الإصلاح مخافة (الآثم) بسبب الخلط الحاصل بين موضوع (الدين) وموضوع (التنظيم) فطلبًا للسلامة يتردد أصحاب الرأي والفكر داخل التنظيم الإسلامي عن التوغل في هذا المجال خوفًا من التأثيم والتفسيق وربما التكفير كما حصل في بعض التنظيمات. انهيار روح التصحيح والتقويم والمراجعة وإعادة النظر تتمهد كل السبل أمام التسلط والقهر والوصاية على الناس وتتفشى روح (العسكرة) والضبطية ولجان التحقيق مع أصحاب الرأي، والاجتهاد، والنظر، والبصر.. ويصبح (أهل الثقة) والطاعة والانصياع أولى من أهل الكفاية والدراية والدرية.. وهكذا تنهار الأحوال العامة للتنظيم وينشغل بنفسه بدلا من انشغاله بالمشروع السياسي والاجتماعي الذي يبشر به. وأما الخطر على المجتمع الأوسع - فهذا الخلط الحاصل بين الدين والتنظيم - قد أوقعه في حيرة من أمره إزاء الدين والمنادين به والمشروع الذي يبشرون به مقابل الممارسات الخاطئة التي تصدر - في الحياة العامة ويوميا، من بعض التنظيمات الإسلامية في إطار الاجتهاد الخاطئ الذي تتعاطاه. هذه الحيرة تفتح المجال واسعًا لكل حملات التشكيك في الدين ومقرراته وحسب ذلك خطرًا. إذن - في رأيي والله أعلم - إن الفصل بين (الدين) و(التنظم) يحقق مصالح كبيرة لكل منهما وللمجتمع الأوسع الذي يتفاعلان فيه.

للمزيد انظر: غياب التفكير المنهجي

تراجع الوعي الأيديولوجي وتصاعد الروح الحزبية:

من أخطر النتائج التي تمخضت عن هذا الخلط بين موضوع (الدين) وموضوع (التنظيم) هو تراجع الوعي الأيديولوجي في أوساط (الإسلاميين) وتصاعد الروح الحزبية بينهم. صار الدفاع عن التنظيم) محركا للجدل في (الأوساط الإسلامية) أكثر من الدفاع عن (الدين) ربما لأن (التنظيم) صار هو (الدين) الذي يدب ويمشي على الأرض كما يتصور البعض. وصار التتبع الفكري والثقافي لنشريات التنظيم وبياناته أنشط من التتبع الفكري والثقافي لما كتبه الفقهاء ويكتبه العلماء في عصرنا الحاضر حول الشريعة الإسلامية وعلومها.

للمزيد انظر: ركنية الحوار وأساسيته وتحديد المضغة الاجتماعية

وصار المسجد مجال تنافس بين التنظيمات (للسيطرة) عليه وعلى محتويات مكتبته المتواضعة أكثر من كونه مجالا للدعوة العامة للإسلام وصار (الحزب) هو القضية التي يدور (الدين) في فلكها، عوضاً عن أن يكون (الدين) هو القضية التي يدور في فلكها (الحزب)، ونشأت (لجان شرعية مهمتها تبرير خطوات التنظيم عبر النص الديني) مهما ضعفت أسانيده وشذ عن الخط العام لروح الإسلام، وتم التعتيم والتغاضي والتجاهل لبعض ما توصلت إليه نفس تلك اللجان في بعض المواضيع التي تتعارض مع الخط الحزبي للنصوص دون استيعاب وإحاطة للسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي لتلك النصوص. وحملت بذلك الحياة الثقافية والتتبع الثقافي والأيديولوجي لدى التنظيمات الإسلامية عموماً، وصار المسلم المعاصر المنتمي إنسانا بلا مهمات عصرية وفي انتظار دائم (النص) لكي يتحرك ويحيا ويؤثر. وغاب عن الكثير أن الإسلام مشروع نهضة كبرى إنسانية وعالمية أوسع بكثير وأشمل من تعاليم الأحزاب والتنظيمات، وهو بحاجة - لكي - ينهض - لبشر ونماذج منهم تختلف عن القوالب التي تصنعها التنظيمات الحالية.

نقطة البداية في حل هذه القضية تكمن في تحقيق الفصل بين موضوع (الدين) وموضوع (التنظيم) على الأقل في تصور المسألة وتنظيرها وتعاطيها على الصعيد الفكري والحركي بحيث لا يتحرج الإنسان (دينياً) وهو يناقش شأناً تنظيمياً إدارياً بحتاً، وهذه ثغرة أعاقت تقدم الحركة الإسلامية وشلت كثيراً من الخير الذي تحتويه.

للمزيد انظر: ماذا ستفعل الحركة بجموعها الكبيرة؟

 

الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق (4)

للاطلاع على الكتاب بأكمله:

https://asmaanawar.pse.is/5wzr8h