العين المجردة - النظر إلى الأمور بنضج
يستوقفني الشخص الذي يرى الأمور على عكس واقعها، فيرى الكوب (معدولًا) في حين أنه مقلوبٌ في الواقع، وهذا بَدءً من الأمور الشخصية والاجتماعية ووصولًا إلى الأمور السياسية فترى الشخص يرى نفسه فذًا في حين أنه بالعين المجردة أقلُ من العادي، وترى شخصًا مفتونًا بغيره في حين أن الأخر بـ العين المجردة شخصًا لديه نقائصُ واضحةٌ، وتجد إنسانًا يرى مسئولًا سياسيًا بعينه لا مثيل له في حين أنه بالعين المجردة لا يدرك أن للسياسة علمًا وعليه أن يكتسبه حتى يكون جديرًا بالمسئولية.
أود قبل أي شيء التعريفَ بالعين المجردة، فالمعنى المعجمي للعين المجردة هو الرؤية بالبصر وحده دون الاستعانة بمنظار أو ما شابه ذلك، ولها معانٍ مجازية كثيرة أختزلها في رؤية الأمور دون التأثر بهوًى أو شعورٍ بالنقص أو استسلام لأضغاث أحلام أو ما يُعرف بالتفكير بالتمني (wishful thinking)أو مجاراة للعقل الجمعي (اللاوعي الجمعي). وأستطيع أن أقول رؤية الأمور بنضج لا بموضوعية إذ إنني أرى أنه لا يوجد شيء اسمه الموضوعية وأنها كلمة محض نظرية فلا أساس لها في الواقع.
فهل ثمة شخص ليس له ميول أو انتماءات؟! فإن لم يكن كذلك فمن المؤكد أنه لا يرتقي إلى أن يكون إنسانًا، فالإنسان يحتوي بداخله نوازعَ وميولًا تطارده فيقررُ أن يقوى عليها ومن ثم يقبضُ عليها فيمنع تأثيرهَا على تَبَيُّنِه الأمورَ وعندها يكونُ الشخصُ قد وصل إلى أعلى مراتب النضج الإنساني فيري بعينٍ مجردة.
قرأت في كتابٍ أو بالأحرى ترجمت كتابًا بعنوان (30 مليون كلمة) تثبت فيه المؤلفة وهي جراحة متخصصة في زراعة القوقعة لينعم الأطفالُ الصم بالسمع – أن ذكاء الشخص أصله نمو اللغة في مخه وهو في مرحلة الطفولة المبكرة وذلك بالتحدث معه وتعرضه للمزيد والمزيد من الكلمات، ومن بين ما عرضت له المؤلفة، وهي أمريكية، أسباب تأخر الطفل الأمريكي مقارنة بالطفل الآسيوي في الرياضيات على نحوٍ خطير، فقد أوردت أن البروفيسورة كارول دويك، مؤلفة كتاب "Mindset: The Psychology of Success"، وأستاذة علم النفس بجامعة ستنافورد ورائدة حركة "عقلية النمو" التي تعد ثورة على الفِكر السائد في مجال التعليم، قد توصلت بعد بحث مضنٍ إلى أسباب هذه الظاهرة الخطيرة، إذ قالت إنه بدلًا من غرس مبدأ المُطلق فيما يخص القدرات، يتوجَّب علينا كآباء ومعلمين دعم الفكرة التي تقول إن المجهود هو العامل المحوري في التحصيل، ذلك أن الاستسلام وليس الافتقار إلى القدرة عادة ما يكون سبب الفشل.
وتقول دويك: "لن نبلغ هدفنا بمجرد إطراء قدراتنا الفطرية" فنقول: "أنت بالفعل رائع في الرياضيات، فقدراتك في الرياضيات فطرية." بهذه الطريقة ننقل فكرة أن الرياضيات قدرة ثابتة، "موهبة" إما أن تولد بها وإما لا. وقول ذلك يحدُّ من الأهمية القصوى للمثابرة والاجتهاد. وذلك يعني أنه عندما لا تستطيع فعل شيء بسهولة فأنت لست ذكيًّا، ولا مجال للمحاولة.
وأضافت أن ثمة طرقًا لمدح الطفل تأتي بنتائج عكسية فعلًا، وغيرِ متوقعَة أيضًا. فسبب إمطار أولادنا بعبارة "أنت في غاية الذكاء"، "أنت موهبة فذة"، ما هو إلا لاعتقادنا أن ظن الطفل بأنه ذكي خليق بأن يجعله ذكيًا.
وبالقياس إلى مستوى الفرد في مجتمعنا نجد الطفل الذي يُغدَق عليه بعبارات مدح لصفات نتمنى لو يمتلكها – وهو خلوٌ منها - ظنًا منا أنه سيمتلكها بكثرة التكرار لا يحقق المرجُوَّ فتأتي الرياح مع الأسف بما لا تشتهي السفن إذ يحدث أسوأُ مما نرجو فلا يقتصر الأمر على عدم امتلاكه الصفات المرغوبةَ فقط بل يصبح لديه اعتقاد راسخ بأنه امتلكها بالفعل فيرى نفسه فذًا في حين أنه بالعين المجردة أقل من الشخص العاديِّ.
وما الذي يجعل شخصًا مفتونًا بآخر، والمفتون قد فقد التحكم في عقله ولا أقصد الفتون بين الرجل والمرأة فليس هذا معرض كلامي الآن، والشخص يكون عُرضة للفتون نتيجةَ بعضِ العواملِ منها الشعور بالنقص الذي هو فجوة في النفس قد يملؤها شخص فيصبح به مفتونًا لدرجة تمنعه من النظر بعين مجردة بل يصل من الدفاع عن صحة آرائه ومنهجه إلى استفزاز من يسمعه من العقلاء. وقد ينتج الفتون عن ضعف الإدراك الناتج عن النزوع إلى الإيمان بالآراء المطلقة ظنًا من الذي يؤمن بها أن عقله يركن إليها، فلا يعلم بأن راحة العقل في استخدامه، ولا يناله من ذلك سوى الحرمان من الرؤية بعين مجردة.
ومن مظاهر كسل الإنسان جنوحُه نحو العيش في أضغاث الأحلام، فتجده طيلة الوقت بين الخيال والوهم بدون أدنى عمل على تحقيق ما يحلم به، وغالبًا ما ينتهي به الأمر إلى الاستغراق في أضغاث الأحلام إلى أن يظن أنها حقيقة فيرى بها بدلًا من العين المجردة، وبذلك يصبح في وادٍ والناس في آخر، ومن ثم لا يرى ما يراه الناس فيستخفون به في أغلب الأحيان دون أن يدريَ بل وقد يسخرون منه.
ومن بينِ العوامل التي تمنع رؤية الإنسان بعين مجردة الاستسلام للعقل الجمعي على الإطلاق؛ والعقل الجمعي يعتبر موروثًا إذ لا تشكله التجربة الشخصية، وهو متعارف عليه بين البشر كلهم. وثمة وجهان للعقل الجمعي أحدهما جميل غاية في الجمال والآخر قبيح غاية في القبح؛ أما الجميل فهو ذلك الموروث الأخلاقي لمجموعة من الأفراد. وأتباع هذا العقل يأنفون من أي انحراف في الأخلاق فتجدُ المجتمع آمنًا بهذا الوجه الجميل لأنه يقضي على فكر "الأنامالية" وعبارته المشهورة "وأنا مالي". فتراه يزجر الخروج على الأخلاق بدءً من نهي الطفل في الشارع عن التلفظ بما هو خارج عن الأدب وصولًا إلى مجابهة الإعلام الذي يُمرر سهولة التفريط في الأخلاق ولو بالشجب على كل المستويات ولا يبدو هذا الوجه إلا في المجتمعات الواعية التي يتمتع أغلب أفرادها ببُعد النظر وبعقل يدرك ويفرز ما يُقال بناء على أساس منطقي.
أما الوجه القبيح للعقل الجمعي فهو موروث الحكايات الخيالية والأسطورية التي ليس لها أساس منطقي بعيدًا عن التجربة الشخصية، فتراه يُصدِّق الشائعات بكل سهولة، ويخشى الفزاعات ويستسلم إلى تعليق الإخفاقات على الغيبيات وأبرزها الحسد واستشعارُ القوة من العيش على مجرد أطلال.
وكلما انخفض وعي المجتمع برز ذلك الوجه فيبدو المجتمع هشًا يسهُل التحكم فيه وهذا ما يرغب فيه الحاكم المستبد إذ يستغل استعدادات هذا الوجه من العقل الجمعي لإخضاعه لاستبداده مقابل الأمن والاستقرار المزعومين فيعيشون في وهمٍ يجعلهم أقربَ إلى تصديق ما هو غيرُ معقول وأبعدُ ما يكونُ عن استخدام عقولهم وهذا جدير بعدم استواء رؤيتهم للأمور فلا يرونها بعينٍ مجردة.
ومأساة الدول المتخلفة أو دول العالم الثالث كما يُقال هي هيمنة الوجه القبيح للعقل الجمعي على المجتمع وتكمن المأساة في كون هذا الوجه هو الداعم الأكبر للاستبداد فيبقى الخاضعون له مشغولين بالفزاعات والغيبيات في ظل انتهاب البلاد.
فما العمل إذن للقضاء على هذا الوجه أو حتى إضعافه لترى غالبية المجتمع بعين مجردة بعيدةٍ عن الزيف وقريبةٍ من الواقع لتحسين السيئ وإصلاح التالف؟ أرى أن ذلك بوضع نظام تعليم مقصده تربيةُ الطلاب على التفكير بطريقة علمية نقدية قادرة على فرز المعقول من غير المعقول، وألا يتخلى كلُ صاحب عقل عن مسئوليته في توعية من حولَه فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!
لمزيد من الاطلاع: