أحبَبت وغْدًا: التعافي من العلاقات المؤذية
بقلم: د. عماد رشاد عثمان
الرجــل الأسـطوري!
نُـبْحِر في الأسطورة القديمة التي اشْتُقَّ منها اسم (النرجسي)، ربما لتشابه الوصف والخبايا كأنه يتناسخ في كل تلك القصص التالية.
نرسيسوس Narcissus (نرجس أو نرسيس): كان شابًّا فائق الجمال، حسن الطلة، مفرط الوسامة، وكان يدرك مستوى جماله المتفرد حتى تجاوزت ثقته بحسنه حدَّ الغطرسة.. الحدَّ الذي كان يشعره في قرارة ذاته بأن (لا أحد يستحقه).. كأنه جائزة فائضة القيمة (لا يمكن لأحد أن يقدره حقَّ قدره)، و(ربما من الظلم أن تحصل عليه امرأة واحدة فقط).. فهو أكثر مما يجب!
العجيب أن بعض نسخ الأسطورة التي تتحدث عن ولادته، تذكُر أن أمه حين وضعته جاءها (ثيراسيا) العراف الأعمى يحذِّرها قائلاً في نبوءته إن ابنها (نرسيس) سيعيش حياة مديدة وطويلة وعامرة.. فقط إن لم يلحظ ذاته ولم ينظر إلى نفسه يومًا.
وتقرِّر الأم أن تحمي ابنها من رؤية صورته أو مشاهدة جماله، لكن مواراة (المرآة) لم تكن كافية، فقد نشأ (نرسيس) متعجرفًا يحتقر من يحبونه ويأملون رفقته، ويرى في مرافقته إياهم تفضُّلاً عليهم بوجوده، ولكن ذلك الاستعلاء والاعتداد الفائق بالذات لم يُفرِّق الناس عنه، وإنما بمفارقة كونية كعادة الحياة العابثة صار محبوبًا من الجميع ذكرانًا وإناثًا، يصدُّهم جميعًا فيهيمون به أكثر.
هو لم يكن يعرف الحب حقًّا، ولم يكن يكترث بمشاعر الآخرين، ولا يبالي باحتراقاتهم شوقًا له، ما زاده جاذبية وألقًا!
كأن البشر يحملون طبيعة غريبة (أن كل ممنوع مرغوب، وكل صعب وغير متاح يصير محط اشتهاء أكثر)!
وفي مكان قريب كانت تسكن إحداهن تراقبه وتتلصص عليه وتتبع أخباره وتحركاته، كواحدة من معجباته اللاتي يثيرهم تفرُّده، تلك كانت الحورية (إيكو).. كانت (إيكو) رقيقة مثالية حالمة، قد رفضت يومًا محاولات التودُّد من الإله (بان) إله الذكورة بكل سيادته وسلطته وثرائه وقوته؛ لتنتظر هذا الحب الحالم والانفعال الحار والقصة الرومانسية التي تتمناها في عقلها الشارد، وتدعو الآلهة ليلاً ونهارًا أن يكون لها نصيبٌ في (نرسيس).
وقد كانت (إيكو) قد خرجت لتوِّها من أزمة حياتية كبرى حين أغضبت الآلهة (هيرا) في موقف عابث، وتمَّت معاقبة (إيكو) بأن جعلتها تفقد صوتها وحديثها الرقيق الذي لم يكن يُمَلُّ، وأصبحت لا تتمكن من إجراء حوار طبيعي مع أي إنسان، وإنما تكتفي بترديد المقاطع الأخيرة من عباراته وتقلد صوته لا أكثر، ولا تتمكن من صياغة أفكارها هي.. تمامًا كطفلٍ يُقلِّد كلماتك، ولا شيء أكثر! تحوَّل كلام (إيكو) كما هو اسمها إلى مجرد (صدى).
قد كان (نرسيس) يهوى الصيد وحياة الترف، يخرج للغابات مع رفقائه يَعْدُون وراء الفرائس يصطادون لهوًا لا غذاءً، والحورية (إيكو) تتبعه وتستمر في مراقبته وتأمله من بعيد.
ربما هي كانت، رغم تشوقها للعلاقة المثالية الحالمة، ترى نفسها دومًا أقل من أن يبادلها الحب رجلٌ مثله.
تشعر بنوع من انعدام الاستحقاق، كأنها ليست كفؤًا لتكون رفيقته وهو الوسيم المحبوب، وهي تلك المنبوذة البائسة الحالمة التي تردد الصدى ولا يمكنها أن تنشئ حوارًا مع أحدهم.. فما بالك بتواصل وعلاقة!
ولكن كعادة الحب لا يخضع للمنطق، فرغم يأسها من الوصل، بقيت تتابعه وتتلصص على أخباره وحكاياه.. تمامًا كما تفعل أي فتاة تتبُّعًا لحبيبها المُشتهَى الذي ربما لا يلاحِظ هواها، وربما لا يدري أحيانًا بانتمائها للوجود.
ومع الوقت يصيبنا الحب بضبابه فنبدأ بالتأويل، فنخلط بين رغباتنا وبين الواقع؛ فنؤول أفعال المحبوب ومواقفه على أنها ملاحظة منه لنا، أو تلميح بهوى مكنون في داخله، أو رسالة ضمنية، أو تعبير مشفَّر عن كونه يبادلنا الشعور نفسه! وهو بالضبط ما حدث مع (إيكو).
ففي يوم ما قد خرج نرجس كعاته مع أصدقائه للصيد، وتفرقوا مصادفة وراء الفرائس حتى تاه (نرسيس) عنهم وضلَّ طريقه، و(إيكو) لم تزل تتخفَّى بين الشجيرات تتابعه.
وأخذ (نرسيس) ينادي على أصدقائه، وحين فتحت الحورية (إيكو) فمها ـونظرًا إلى تلك اللعنة التي أصابتهاـ باتت تردد صدى صوته المنادي، ويظن (نرسيس) أن ذلك الصوت هو أحد أصدقائه يناديه ليعرفه مكانه.
وتتوهم (إيكو) في سكرة الهوى الذي أعماها أنه يُجري معها حوارًا رمزيًّا، أو يقصدها ويعنيها ويبادلها شعورها نحوه!
- رفيقي أين أنت! = أين أنت!
- أنا أبحث عنك طويلاً! = أبحث عنك طويلاً!
- تعال إليَّ! = تعال إلىَّ!
وحين يشتد تأويل (إيكو) لنداءات (نرسيس) وأوصافه على أنها موجهة نحوها، تعدو نحوه فاتحة ذراعيها بلهفة تشتاق لاحتضانه.. وإذا به بكل بروده المعتاد يردها بعنف ويدفعها بجفاء ويزيحها عن طريقه، فسقطت أرضًا وهو ينظر إليها في استعلائه معلنًا أنه لا يعرفها ولا يحبها، وأنها لا ولن تليق بمثله أبدًا!
ويرحل (نرسيس) عنها ليكمل بحثه عما يريد، تاركًا إياها تلملم كرامتها الذبيحة، وتحمل خجلها الأنثوي المستباح، وتتجرع مشاعر الخذلان والأسى وارتطامها العنيف بخشونة الواقع بعد تحليقها لتوِّها في عوالم الوهم.
وتعود (إيكو) لتجلس على ضفة البحيرة وحيدة منبوذة تشعر بالعزلة أكثر، ويتنامى داخلها الغضب أكثر وأكثر، ويتحول إلى رغبة عاجزة في الانتقام لأجل أنوثتها المنتهكة، وتمضي الليالي بين بكاء وصراخ ودعاء للآلهة أن تصبَّ غضبها عليه، ترفض الطعام والشراب ومخالطة الناس، حتى بدأ جسدها يذبل ونضارتها تنزوي.
أما (نرسيس) فلم يكن يكترث، بل هو ربما لا يتذكر الأمر، فهي مجرد حادثة مكررة ورقم آخر يضاف إلى عدَّادات المتطلعين إلى قربه، ووجه جديد يضاف إلى قائمة مقتنياته ممَّن عشقْنَهُ وهو لا يبالي.. ويعود (نرسيس) لحياته ولرحلة صيد لاهية جديدة!
ويشتد حزن (إيكو) ويعصف بجسدها أكثر، حتى ماتت ذابلة منهكة وهي تصرخ للآلهة.. ويتحول جسدها إلى رماد نثرته الريح في الجبال (فصار هو في الأسطورةـ "صدى الصوت" الذي نسمعه ممزوجًا بأنينها).
وهنا تكترث آلهة (الأولمب) وتستفيق.. وتقرِّر الآلهة أن تنتقم من (نرسيس) المغرور، وتُوكل الأمر إلى (نيمسيس) إلهة القدر والجزاء.
(نرسيس) التي تستدرجه ذات صيد إلى بحيرة صافية يبدو أنها البحيرة نفسها التي ماتت عندها (إيكو)، مياه البحيرة شديدة الصفاء لدرجة أن (نرسيس) حين ينظر إلى صفحة). الماء يرى انعكاس وجهه عليه، وهناك تنزل به لعنة السماء وتتحقق نبوءة العرَّاف (ثيراسيا)، ويقع في قلبه عشق مرضي لصورته وملامحه، دون أن يدرك أن ذلك الذي يراه هو وجهه هو نفسه؛ إنما يظنه وجه محبوبة جميلة تتوارى عنه كلما مدَّ يديه لاقتناصها.
رأى (نرسيس) في تلك الصورة المنعكسة على وجه المياه الصورة الوحيدة التي تليق بحبه، فتعلق بها، وتجسَّد حبه لذاته في ذاك الهوس الذي ملأه نحو النظر إلى هذا الوجه المرتسم على صفحة المياه، يتأمله ويناجيه.
حتى ذَهل عن كل شيء عداه، وغاب عن كلِّ ما سواه، وافتُتِن بتلك الطلة البهية وبقي هناك في الانتظار يتأملها دون لقمة أو شربة ماء، فصار يذوي ويذبل حتى هلك هناك جوار البحيرة ومات في موضعه، فنبتت مكانه زهرة (النرجس) كرمز لتلك القصة الأسطورية!
رمزية الأسطورة وعلاقتها النفسية بنموذج العلاقات المؤذية
تلك القصة التي استلهمتها (أدبيات التحليل النفسي الأولى) واستخدمت بطلها رمزًا لهذا الاضطراب واشتُقَّ من اسمه مصطلح (النرجسية)/ (النرسيسزم) Narcissism الذي ينشغل فيه المرء بذاته وتأخذه نفسه عمَّا سواه، ويصبح حبه موجهًا في أساسه نحو نفسه، حتى يؤذي من حوله، وربما يتسبب في هلاك نفسه بفعل هذا الحب الذاتي المريض!
إن المتأمل لهذه الأسطورة القديمة، سيجد رموزًا وإشاراتٍ لكواليس تلك العلاقات الشائهة الطافحة بالوجع والاضطراب.
نرسيس كان صيَّادًا يصطاد للهو لا للطعام.. وفي ذلك إشارة بالغة إلى طبيعة النرجسي الاصطيادية.. وميوله للإغواء والإغراء، فالصياد اللَّاهي لا ينتقي سوى الفرائس التي تحمل تحديًا ومتعةً في نَيْلها.. ولكن في الوقت نفسه تلك التي تحمل طبيعتها الخلقية خصائص الفريسة.. (والنرجسي في العلاقات أيضًا كالصياد، ينتقي الفريسة التي ربما تحمل نوعًا من التحدي في البدايات).. وما يحبه الصياد النرجسي هو عملية الصيد ذاتها لا الفريسة، تستهويه المطاردة لا التغذي، بل ربما يزهدها تمامًا بعدما تصير مملوكة له!
ويقوم الصيد على وضع الطعوم ونصب الفِخاخ.. والطُعم لا يكون مما يحبه الصياد وإنما مما تحبه الفريسة.. فلا أحد ينصب للأرنب طُعمًا من ثمرة المانجو إنما من الجزر؛ لأن الأرنب يحب الجزر حتى وإن كان الصياد يهوى المانجو. وهكذا، النرجسي ينصب في إغواءاته لفرائسه والتي تقوم دومًا على فِخاخ الكلام وطعوم الوعود ما تهواه الفريسة وتنتظره، وما تترقبه وتأمله وتتمناه فيظهر ما تشاؤه الفريسة لا حقيقة الصياد نفسه!
بل إن لدى النرجسي قدرة عجائبية على استشفاف ما تريد سماعه ليسمعك إيَّاه، وما تأمله من رفيقك ليظهره لك في البدايات!
في نبوءة العرَّاف لأمِّه بأن نرسيس سيعيش حياة طويلة فقط إن لم يلحظ ذاته.. تكمُن هنا تلك الإشارة أن كل نرجسي يمكنه أن يحظى بحياة صحية وناجحة ومشبعة، بل ويحقق نجاحات استثنائية تُرضيه ومن حوله، فقط إن توقف عن ملاحظة ذاته واستعلى على نداءات هوسه بنفسه، وتوقف عن تقديم حاجاته ورغباته على حاجات الآخرين، واعيًا أو غير واع.
وهو للأسف نادرًا ما يحدث؛ فهي مفارقة متناقضة أن يتحلَّى النرجسي بالتواضع.. وقلَّما يدرك النرجسي هذا الأمر إلا متأخرًا للغاية، أنه يمكنه أن يحظى بحياة جيدة حقًّا إن تخلَّى عن النظر إلى ذاته والتعبد لها. تلهيه عن ذلك المكاسب اليومية التي يحظى بها، وقدرته الغريبة على حيازة القبول، ونجاحه في عمله واتساع دائرة علاقاته.
لذا قد يحظى النرجسي بحياة ناجحة ظاهريًّا، ولكنها خاوية من المعنى والقيمة ولا تُرضيه ولا تُشبعه على وجه الحقيقة، ولا يدرك أنه يحمل شفرة الحل داخله، وأن أساس خوائه الرُّوحي هو تمركزه المفرط حول ذاته.
اسم الحورية (إيكو) تلك التي وقعت في هوى (نرسيس).. والتي لم تكن تملك سوى ترديد المقاطع الأخيرة من عبارات الناس، والتي اشتُقَّ من اسمها (صدى الصوت Echo).. وفي ذلك إشارة رمزية لما يحدث من تلاشي المرأة الانهزامية في النرجسي، حتى تصبح مع الوقت مجرد (صدًى) لوجوده، وظلٍّ لكيانه، ودون دور حقيقي، وربما بلا أدنى تأكيد للذات أو مبادرة ولا حرية انفعالية.. (كجسم مُعتم يعكس إشعاعات إطلالات النرجسي بلا ضوء ذاتي).
وذاك ما تتذوقه كل أنثى تخوض تجربة علاقة مؤذية مع نرجسي، تشعر مع الوقت أنه يمسخها ويمتص صوتها ويتغذى على كيانها حتى تستيقظ يومًا فتجد نفسها بلا هُوية، وكل شيء صار يدور حوله وفيه، وأنها باتت مجرد كائن هامشي ظلالي وصدى جانبي لوجوده، ولا شيء أكثر!
العجيب أن الأسطورة تروي كما ذكرنا أن (إيكو) قد رفضت قبل علاقتها بـ(نرسيس) إله الذكورة (بان) الذي تقدَّم لها خاطبًا.. وفي ذلك إشارة رمزية لتلك الطبيعة الأنثوية التي ترفض كل أحد سوى هذا النرجسي مهما كان مدى حب غيره لها، ومهما كانت رجولته البادية وظروفه، بل حتى إن كان رمز الذكورة ذاته وإله الفحولة، لتبقى في انتظار هذا النرجسي رغم إيذائه! (هي ببساطة ترفض كل رجل آخر؛ انتظارًا لتلك القصة اللامعة الوهمية والمترسخة في نفسها الحالمة).
بعد كارثة الفراق والوجيعة لم يكن (نرسيس) يكترث، كأن شيئًا لم يكن، في الأثناء نفسها التي كانت (إيكو) يقتلها فيها تحالف من الاشتياق، والوحشة، والشعور بالعار، والمهانة.
وتلك هي القصة المكررة بعد الهجر في العلاقات المؤذية؛ النرجسي تمر حياته بالسلاسة ذاتها، لا شيء ينقصها، مواصلاً أداءه اليومي الاستعراضي المعتاد، أما الفتاة التي فقدت صوتها وشخصها ونكهتها وملامح روحها؛ فحياتها تبدو كأنها تيبَّسَتْ في وضع الانتظار، وكأن الزمن لا يودُّ أن يمنحها نسيانًا رحيمًا! يبدو في هذه اللحظة أن الأوغاد يربحون دومًا!
إن الآلهة حين تغضب وتقرِّر الانتقام لـ(إيكو) وغيرها من ذلك المغرور المتعجرف (نرجس) تكل الأمر إلى إلهة القدر (نيميسيس) الإلهة الأنثى، وفي الأساطير اليونانية تعدُّ نيمسيس هذه رمزًا للكارما (الجزاء من جنس العمل)، وتحقيق العدالة الإلهية، وإنزال العقوبات.. كنوع من الإشارة الرمزية إلى أن ما يخرج من النرجسي سيدور في فلك الكون ثم يعود إليه بانتقامه، وأن الشر والإيذاء يحمل في نفسه عقوبة المؤذي ذاته، وإن كانت مؤجَّلة متأخِّرة، ولكنها لن تسقط بالتقادم!
ربما قد أتى الجزاء متأخِّرًا بعد هلاك (إيكو)، ولكن الإشارة إلى أن موت (نرسيس) كان بسبب هوسه بذاته وليس بشيء خارجي، وأن جزاءه نبع من نفسه وبيده ومصيره، كان نتاجًا لتكوينه، وأن ما تبجَّح به كثيرًا وارتكز عليه وتمحور حوله هو نفسه ما كان سبب في تدميره!
وهو ما نؤكد عليه حين نتحدث عن ذلك الخواء الذي ينهش المؤذي من الداخل، وتلك الفجوة الظلامية التي تتسع في نفسه بعد كل إيذاء حتى تلتهمه ذات يوم! لنعلم يقينًا أنه وإن بدا لك سعيدًا متهكمًا متسيِّدًا ومتماسكًا فهو يفتقد
أبسط أبجديات السلام النفسي والراحة الداخلية!
ورمزية انعكاس الصورة على صفحة الماء وكونها الشيء الوحيد الذي وقع النرجسي في حبه لها بالغ الدلالة، ونود أن نحشد لها الانتباه؛ فالنرجسي كما سنعلم غير قادر على الحب الصحي، وكل حبه في الحقيقة موجه نحو ذاته من زاوية ما، حتى وإن لم يدرك هو أو شريكه هذا الأمر ظاهريًّا (ما يحبه فيك ليس سوى انعكاس صورته عليك).. يحب حبك له ولا يحبك، يحب تمجيدك له وغزلك الموجه قربانًا إليه وطقوس احتفائك به، يحب صورته اللامعة في صفحة عينيك وبريقه الساطع في انبهارك به، ولكنه لا يحبك أنت!
الأهم أن هذا (الغضب النرجسي) قد لا يكون دومًا تجاه نقدٍ متعمَّدٍ ظاهر السلبية، بل أحيانًا تجده ينفعل بشدة تجاه عبارات وسلوكيات عفوية لم يقصد بها صاحبها أيَّ إساءة، وربما لم يكن منطلقها النقد أو التعليق السلبي؛ بل ربما لم تكن تتعلق بالنرجسي أصلاً، ولكن النرجسي مبدع في التأويل ولَيّ أعناق المواقف والكلمات، مستخرجًا منها منطلقات نفسية غريبة لدى صاحبها، كأنه يحاول الانتقاص منه وسرقة بريقه وتهديد نجاحه.
وتلك الأنانية ربما تكون:
- واضحة جلية ظاهرة Overt Narcissism يمكن للكل ملاحظتها.
- أو متخفية ومتوارية Covert Narcissism وهي الأصعب.. فليس كل نرجسي هو ظاهر الغرور سهل التشخيص للعابرين.
فقد تجد صاحب النوع المستور من النرجسية، يُظهر حينًا أنه ذلك المتفاني الذي يحترق من أجل الآخرين دون تقدير منهم ولا مكافأة، يغذي فيهم الشعور بالذنب والتقصير تجاهه، مستجلبًا بشكل خفيٍّ دورانهم في فلك إرضائه.
أو تجده يرواغ في استمالة دوافع الآخرين ليصبح في النهاية مرادهم هو ما يريد، ودوافعهم بأسرها تتمركز حول أغراضه ودوافعه.
أي أنه ببساطة يجعلك تفعل ما يريد ظنًّا منك أنك تنفِّذ إرادتك أنت، وأن هذا هو ما تريده، هو يلقنك النية ويقحم فيك الإرادة فقط لتوافق هواه.. دون أن يطلب الأمر بشكل صريح!
نقد الآخرين والسخرية اللاذعة والتهكمية:
كونه يرى في نفسه التميُّز ويصنِّف ذاته بالأفضلية والتفوق، بل وينسب تفوقه ذلك لما يعتبره تكوينه المتفرد وهمته وسعيه، فهو يرى لنفسه الحق في تقييم الآخرين والانتقاص منهم.
فتجده كثير الحكم على الناس وربما المؤسسات، (لا يكاد يعجبه شيء)، يتصيَّد الأخطاء، ويتتبع السلبيات ويجلبها إلى مركز الرؤية كأساس للتقييم، ويتخذها ذريعة للنبذ والرفض.
فإن لم يجد مبررًا للنقد، ولم يمسك بسلبية واضحة يُقِيمها سبيلاً لشيطنة الآخر وتسفيهه، يَعمد حينها إلى المراوغة والتأويل أو التشكيك في النوايا والنفوس إن صدر عنها شيء إيجابي!
وأحيانًا يكون تمركز النرجسي لا يدور حول النجاح والإنجاز، قَدْر تركيزه على جماله الظاهري، أو وسامته أو جاذبيته أو ذكائه، أو موهبة يحملها أو قدرة ما يتحلى بها أو مهارة يتقنها، أو وظيفة ومركز يشغله.
صعوبة في الشعور بالآخرين أو التعاطف معهم:
رغم كونه قد يبدو دافئًا رقيقًا حميمًا فالحقيقة أنه لا يمكنه أن يشعر إلا بذاته، ولا يمكن أن يكترث إلا بأحاسيسه الذاتية فقط، وكل المشاعر التي يستوردها من الآخرين ويتلبسها هي زائفة زائلة مؤقتة!
ويفيده بشدة هذا (القناع الدافئ) في الوصول للآخرين وحيازة ثقتهم، يُمكِّنه ذلك من التلاعب بالمشاعر ببراعة، ولكونه غير قابل للانخراط العاطفي وقدرته الاستثنائية على اللامبالاة، فتسهل عليه المحاورة والمناظرة والبيع والإقناع والإغواء.
الغيرة على إعجاب الناس بغيره:
ونظرًا إلى كونه يهوى دومًا أن يكون محطًّا لإعجاب الآخرين وانبهار المقربين منه ومحورًا لحفاوتهم؛ فإنه يودُّ أن تبقى هذه الحفاوة والتقدير حصريًّا له وحده، هو لا يريد فقط أن يحصل على إعجابك.. إنما يبتغي أن يستحوذ على كامل طاقات الإعجاب منك، فلا يبقى منها شيءٌ ليتوجَّه لغيره!
لذا يصيبه استياء بالغ إن ذكرت أحدًا أمامه بالخير، ولو كان المديح في شيء ليس من مساحات التنافس بينهما.
وربما يزداد هذا الغضب والحنق من التفاف الناس ـوبالأخص المقربين منهـ حول أحدهم حدَّ الحقد عليه، ومحاولة إبعادهم عنه ليبقى ولاء طاقات الانبهار فيهم موجهًا نحو النرجسي وحده!
فهو يعتبر الإعجاب بغيره نوعًا من النقد غير المباشر له، أو الانتقاص منه، ما يؤدي إلى نوع غير مباشر من (الجرح النرجسي) الذي ينمو بمرور الوقت نتاجًا لشعوره الدفين بالعار الذاتي، حتى يتحول الأمر إلى مشاعر الحسد للآخرين وتمني تعثرهم وزوال مكانتهم، وتكوين الأحقاد تجاههم والشماتة الداخلية في أزماتهم.
ثم يستخدم آلية (الإسقاط النفسي) اللا واعي ـكعادتهـ فيلقي ما يشعر به عليهم؛ فيراهم هم مَن يحقدون عليه وينافسونه ويحسدونه، بل ربما يتآمرون على إقصائه وإزاحته ونبذه ومحاولة النيل من نجاحه وتفرده وسمعته!
النرجسي ممثل بارع:
هو ممثل حياتي مبدع بامتياز، ولكنه يعيش دوره بإتقان ودون كثير جهد يُذكر، حتى يتطابق معه فيصعب فصل حقيقته عن ادِّعائه، يُصدِّق نفسه تمامًا، فلا عجب أن يصدقه بعض المشاهدين.. حتى نصير في العلاقة مندمجين تمامًا مع صورته التي يُصدِّرها ودوره الذي يلعبه، متيقنين بشدة من كوننا نعرف حقيقته.
حتى نقابل تلك الصدمات النفسية المفجعة، تصفعنا حين تظهر دلائل الحقائق المستورة عنا، وتتجلَّى القرائن التي تكشف لنا عن الوجه الآخر للوداعة.
ومن هنا تبرز قاعدة: (إن المؤذي لا يتغير إلا حين يرتطم بالقاع.. حين يذوق خسارات حقيقية ترجُّ عالمه رجة عنيفة بما يكفي للاستفاقة).
ومن أشكال الشخصيات ذات السمات النرجسية
١) الكسول (الخارق الموهوم)
٢) الواثق
٣) اللا أخلاقي
٤) المظهري
٥) النـجـم
٦) الدونجوان
"العلاقات المؤذية قد تكون الأسهل في التعرف عليها.. رغم أنها بلا شك الأصعب في التخلص منها!"
(ديزموند توتو)
ملامح العلاقة مع الـمـؤذي
العلاقة المؤذية علاقة انفعالية:
مفعمة بالعواطف والحرارة في الحلو والمر، في العشق والشوق والغضب والغيرة، وتفتقر إلى العقلانية والواقعية.. فتجد أطرافها يزيحون الواقع وعقباته، ويتلاهون عن الظروف ومقتضياتها، ويهربون بهذه العلاقة من الحقيقة….
العلاقة المؤذية علاقة إدمانية:
أي أنها تستمر دومًا بشكل قهري، لا يتمكن أطرافها من التحرر منها رغم رغبتهم في ذلك، لا تُـمَكِن من الرحيل عنها رغم كل الآثار السلبية المترتبة عليها….
العلاقات المؤذية أقوى وأمتن من العلاقات الصحية، وأصعب كثيرًا في الفراق والتعافي منها.. وهو ما سنبينه بتحديد نوع التعلق في العلاقة المؤذية.
التعلق المبني على الصدمة Traumatic bonding:
هو ذلك النوع من التعلق الذي ينشأ في العلاقات المؤذية، ينبني على التأرجح بين الإيذاء والمكافأة.. فالشخص نفسه الذي يؤذيك ويسيء إليك، ويرهقك نفسيًّا وبدنيًّا وعاطفيًّا ويستنزف طاقتك وينزل بصورتك الذاتية نحو الحضيض؛ هو نفسه أحيانًا من يكون حنونًا عطوفًا ممتلئًا بالدفء!
العلاقة المؤذية تتأرجح دومًا في مرحلة الانفصال والعودة:
تجد بعض هذه العلاقات تستمر في محاولات الانفصال ثم العودة، ربما أكثر من مدة الارتباط نفسها.
العلاقة المؤذية تتنوع فيها الإساءات: بأنواعها الجسدية بالضرب، أو الجنسية بالاستغلال أو المفاوضة على الجسد مقابل البقاء، أو النفسية بالتهكم، أو السباب، أو الازدراء، أو نوبات الغضب والصياح.. علاقة مشحونة بالإرهاب النفسي أو الجسدي لتمرير الإرادة المؤذية.
العلاقة المؤذية تحوي الذبول لا النمو، والتلاشي التدريجي لا الازدهار، والاضطراب لا السكينة، تدخلها مفعمًا بالأحلام والطموحات والمبادئ، ثم بمرور الوقت تبدأ التنازلات وتمييع القيم والاستهانة التدريجية بالمعاني، ثم تتخلى عن الطموحات والأهداف، وتصبح كل طاقاتك مستغرقة هناك؛ في محاولة الإرضاء، أو محاولة التغيير والإنقاذ، أو محاولة التعافي منها والتحرر من إساءاتها.
فالناس بالنسبة إلى المؤذي والنرجسي نوعان لا أكثر:
النوع الأول: من يلبُّون احتياجه للتقدير (المدد) ويدغدغون مشاعر العظمة ويستبقون عليها.. وهؤلاء يمثلون له مكسبًا ينبغي استبقاؤه بالجوار والتأكُّد من إحكام السيطرة عليه وامتلاكه!
والنوع الثاني: من يجرِّده من زهوه ويملأه بالإحباط، ويمثلون له خطرًا ينبغي إزاحته أو على الأقل الابتعاد عنه!
"هناك نوعان من الجبناء: نوع يعيش مع نفسه ويخاف من مواجهة الناس، ونوع يعيش مع الناس ويخاف من مواجهة نفسه"
"روسكو سنودين"
فما الذي يجعل البعض أكثر قابلية للإيذاء والتورط في علاقة مسمومة؟
العاطفة المثالية المفرطة (نموذج الدرامية):
تلك الفتاة التي تحيا أحلام الرومانسية المرهفة، تنتظر الفارس المثالي، وتظن أن على هذه الأرض من الممكن تحقيق أحد أحلام (ديزني) الملونة التي تنتهي دومًا بعد قصة طويلة من اللهفة والصراع بـ(عاشوا في تبات Happily Ever After) ….
تلك الحالمة التي تمقُت الواقع وجفافه وقواعده وصرامته، تقرأ الروايات وتبحر في عوالم الدراما من أفلام ومسلسلات، وربما لم تزل في عشريناتها تهوى أفلام الكارتون وتبغض أخبار الحوادث وترتعد من أقاصيص الجريمة…..
تلك التي تقيم للمشاعر احتفالاتها وللأحاسيس قداسة مبالغة، فكل شيء عندها تتحدد قيمته بغطائه الانفعالي والإحساس المرتبط به….
وهناك النسخة الدينية التي تنتظر ذلك القديس المتدين، الحواري الذي كسر حاجز الأزمان ليطل على أزمنتها ليعيشا معًا (حدوتة) الحب العفيف تحت مظلة بركة السماء، فيسبِّح الربَّ على أصابعها، ويؤمها في صلاة الليل قبل احتفالات الخميس، ويربُّون أبناءهم تلك التربية المثالية الحالمة بأن يكبر أحدهم ليصير الفاتح العظيم الذي يسترد التاريخ ويعيد الأمجاد!
الـجـوع للأب:
وأحد أنواع الشخصيات الأنثوية التي تسقط في هوى النرجسي هي (الجائعة للأب)! مَن تحمل تلك الفجوة التي لم يَعُدْ شيءٌ يملأها.. هوة واسعة للغاية تستنزف مشاعرها وتمنحها قلقها الدائم.. قد حفرها جوعها القديم للأب.
الأب، ذلك الذي لم يفهم أن احتياجها ليس لميكنة تحصيل نقدية، ولا يسده فستان جديد أو دُمية بلاستيكية، وأن خوفها الأصيل لم يهدأ عبر غضباته العاصفة أو نظراته الصارمة، أو قوانينه الحازمة حول الثياب والمواعيد ونِسب الألوان على وجهها وفي ملابسها! تنشأ الفتاة تخشاه وسط ما تخشى من دنياها.. يضاف والدها إلى قائمة مخاوفها المتراكمة.
وبدلاً من أن يصبح الأب مظلتها التي تُطَمْئِن مخاوفها وتربت على رعداتها الداخلية، أصبح هو نفسه خوفها الأكبر وتهديدها الأعظم. طلته.. نبرته.. صيحته.. كل شيء من ملامحه الخشنة العابثة تنحفر في ذاكرتها.
ـ بل ربما تقوم التربية بأسرها حينًا باستغلال الهشاشة الطفولية للصغيرة، بطريقة تربوية رخيصة تقوم على التخويف الدائم؛ فالطعام يؤكل هربًا من الغولة أو كلب الشارع (المسعور)، والشارع نتجنبه هربًا من الخاطفين والمتحرشين، والأفعال الأخلاقية تؤدِّيها اتِّقاءً لأن ينهشها كلام الناس وسموم السمعة.
ـ وربما في بعض حالات الجنون التربوي ينحفر في ذاكرتها ملمس صفعة الأب، وزرقة لحمها تحت قبضته، وربما تنحفر لفظة نابية أو عبارة تنتهك إنسانيتها، أو لقب يديم جرح كرامتها، أو مقارنة يُجْرُونها بينها وبين قريبتها يظنون في تلك المقارنة حافزًا لها، وربما شعورها أنها لن تكون يومًا كافية في عينيه، أو افتقادها لنظرة فخر واحدة تطل من عينيه على حين غفلة من دوام انتقاده!
ـ وربما في حالات أخرى قد لا يكون الأب مؤذيًا ولا شريرًا؛ إنما هو فقط غائب على الدوام.. ربما هو قد سافر ليتحصل على لقمة العيش في دولة أخرى، وأجبرته الظروف على أن يطل عليهم كضيف كل عام يتزيَّنون لطلته تزينهم للعيد، فأصبحوا يرتدون أقنعتهم في حضوره العابر يشعرون بالانفصال عنه!
ـ وربما هو منشغل بعمله نهارًا، متكوم على فراشه عصرًا، منهمك مع مباراة أو جريدة أو صديق مساءً!
ـ وربما هو موجود ومتفاعل، ولكنه بارد جاف غليظ خشن، يختصر الأبوة في في كونه المصدر الرئيس للنقود، والحاكم المطلق على ربوبية الأسرة.
وربما فقط هو غائب في حضوره! كسول متنكر لمسؤولياته، غافل عن دوره.
يؤهلها كل ذلك (جرح الأب) للبحث عنه في الخارج، البحث عن أبٍ بديل، وتلبية خارجية لتلك الاحتياجات غير المسددة، فلا شكَّ أنها يسهل انزلاقها للمؤذي القوي الحاني في طلته، المسيطر المغازل، كأنه يمنحها تصحيحًا لتلك العلاقة الأولى التي منحتها جرحها الأعمق.
ولا عجب أن تتعلق بذلك الأب البديل تعلُّق الطفلة، وتتشبث برقبته تشبُّث الغريق، ويصعب عليها انتزاع هواه من قلبها كأنه قد ترسَّخ في مساحة فطرية منها!
الإرضائية والإيثارية والإنقاذية:
الإرضائية: تلك السمة تكاد تكون مشتركة بين ضحايا العلاقات المؤذية، حتى تجد تلك العلاقة نوعًا من التكافل والاعتمادية بين نرجسي غير متعاطف ولا يكترث بمشاعر الآخرين، وامرأة ممتلئة بالحساسية المرهفة تجاه مشاعر الآخرين، تعاطفية بشدة، دافئة التواصل بإفراط، شديدة الاكتراث بحزن الناس وغضبهم، ولا تكاد تحتمل أن تجرح أحدًا ولو بمحض الاحتمال!
تلك الشخصية التي تحيا لإرضاء الآخرين وإسعادهم، يستند عليها الجميع، تلك الرحبة واسعة الصدر، دافئة المشاعر التي تستمع وتتقبل وترهق أعصابها في مواساة المحيطين ودعمهم.
تلك التي تتحول مع الوقت إلى حوض لتفريغ آلامهم، ومكب يلقون فيه بحكاياهم، وبئر مشيدة لأسرارهم.
ولكن لا أحد ينزح آبارها هي!
تلك التي لا تستطيع أن تقول (لا) ولا تعرف في لغتها (هذا لا يناسبني)!
الإيثارية المفرطة: تلك الفدائية المحترقة من أجل الآخرين، التي تحمل درجة من درجات (عقدة الشهيد)، وتحيا دور المفدي والمخلِّص الذي يبذل آلام روحه فقط من أجل راحة الآخر.. على نحو لا واعٍ تتسول محبة الناس عبر نظرات الرضا في عيونهم، وتلبي شعورها بالوحدة عبر ربط المحيطين بها بالبذل وتسديد احتياجاتهم ولو على حساب احتياجاتها!
وكلما زادت تعاطفيتها المفرطة تلك، وانخفضت قدراتها على الرفض خوفًا على مشاعر الآخرين؛ كانت أكثر عرضة للسقوط في بحر رمال الإيذاء الناعمة دون قدرة على الخلاص والفرار، وضعفت قدرتها على التعافي والتحرر، وزاد قبولها لأعذاره حين يعود!
تلك الشخصية الإرضائية (السنيدة) هي من تبتلع إساءات المؤذي وتصدق هراءه، وتعامله بأمومتها حينًا وبمشاعر الشفقة حينًا، وتُقدِّم إرضائه على رغباتها أحيانًا!
الإنقاذيــة: تلك التي تقتلها أمومتها وتنتحر طوعًا بفعل الشفقة المتوهمة تجاه ذاك الطفل المستتر تحت جلد النرجسي، تحاول أن تنقذه بالحب!
تظنُّ دومًا أن الحب قادرٌ على مداواة جراحه، وأن مزيدًا من العطاء ربما يمنحه طاقة للتغيير، وأن مزيدًا من تقبله واحتوائه سيجعله يومًا ما يتحول إلى الرفيق المثالي! أو أن معجزة سماوية ما ستنزل يومًا على قلبه بفعل دعائها وتضحيتها واحتراقها المِعطاء لأجل إرضائه، وأن تلك المعجزة ستنزع الوحشية الظاهرية منه وتعيده الملاك القدسي الأبيض، وحينها يصبح كل شيء على ما يرام!
كل هرائها الانهزامي الموهوم يقوم على الشفقة!
الشفقة هي مشنقتها التي تلفها طوعًا كل صباح حول رقبتها، لتلفظ أنفاسها في محاولة يائسة صبيانية لتغيير ما لا يتغير!
الصورة الذاتية السلبية أو المهتزة:
الأشخاص الذين تكون (صورتهم عن أنفسهم Self-Image) سلبية أو مشوهة أو قلقة ومضطربة ودائمة التأرجح، ربما بفعل التجارب السابقة أو التربية.. حين نستمد صورتنا عن أنفسنا من آراء الآخرين، فنتسول القبول الذاتي عبر ثنائهم ورضاهم ومديحهم، ونعاني من حساسية مفرطة للرفض أو الآراء السلبية.
الفراغ العاطفي وتعتيق الانفعال:
الفراغ العاطفي! ذلك القاتل النفسي اللعين، الجرف الخطِر الذي يهوي بك بين يدي نرجسي!
هو فجوة تظهر داخل النفس يمثلها احتياج لوجود أحدهم بالجوار.. يغذيها عدم تمكن الأهل والأصدقاء من التفهم والمشاركة.. ويوسعها ذلك الجوع للاستناد والاستيعاب!
لماذا نحتاج هذا الحب الموهوم؟
لأنه يمنحنا الأمل الشفيف والشعور بأننا كائنات مرئية محبوبة ونشغل حيزًا من الاهتمام!
وفي هذه الحالة ينبغي أن نعرف أننا لم نحب حقًّا؛ فقط كنا جاهزين بشدة للحب محتاجين له بشكل قد يسهل التوهم والالتباس!
إنك لم تحب هذا النرجسي المتوحش حقًّا، أنت فقط أسقطت عليه صورة أحلامك المتخيلة، ومنحته قناعًا نَحَتَهُ فراغُك العاطفي، فظننت نفسك قد وجدت بُغيتك لتوِّك!
تكنيكات الإيذاء فـي العلاقـة الـمـؤذية
"المشكلة في معظم الناس أنهم يفكرون بأمنياتهم أو بمخاوفهم بدلاً من أن يفكروا بعقولهم"
"ويل ديورانت"
١ـ التطابق مع الإسقاط projection identification الإسقاط أو الطرح projection:
وفيه يقوم المؤذي بطرح خصائصه النفسية وعيوبه على الآخر، ويبدأ في إدراكها فيه كما تعارف عليه في النظرة الشعبية (اللي فيا أجيبه فيك) أو (رمتني بدائها وانسلت) أو (الكاذب لا يصدق أي أنه في محاولة نفسية ـلا واعيةـ للتعايش مع تشوهاته الداخلية يبدأ في إلقاء نقائصه على الآخرين، ثم يدركها فيهم ويتعامل من خلال هذا الإدراك المغلوط، بل ويبدأ في التصديق فعلاً أن هذا الأمر فيهم لا فيه، وأنه بريء منه، بل يستخدم النرجسي هذا الدفاع النفسي ليتمكن من التحرر من اللوم الذاتي ويرى أنه ليس مختلفًا عن الجميع وأن الكل يفعل هذا، وأن أفعاله ومعايبه ليست سوى ردة فعل لما وجده لدى المحيطين به أولاً.. فهو يكذب الآن لأنهم هم من يكذبون أولاً.. وهو يخون لأنهم لا يستحقون، ولو كانوا بموقعه لفعلوا فعله.. وهو يُقدِّم احتياجاته لأن الأنانية استشرت فيهم أولاً!
٢ـ اللــوم:
يُضاف إلى الإسقاط استخدامه لدوام إلقاء اللوم على الآخرين عند حدوث أي خلل أو مشكلة، فقط ليتنصل من المسؤولية.
مثلاً مشكلات الأبناء تصبح دومًا في نظره نتاجًا لتقصير الأم في تربيتهم في أثناء احتراقه لتلبية طلباتهم المادية، ولسانه يُردد تلك الرخيصة المكررة: (هذه هي تربيتك)!
٣ـ التشكيك في إدراكك Gaslighting:
التلاعب بإدراكك للأمور حتى التشكيك في قدراتك الذهنية، وربما سلامتك النفسية، من التكتيكات التي
يستخدمها النرجسي كزوج أو شريك للسيطرة على شريكته، هو أن يجعلها تتشكك في صحة إدراكها للأمور النفسية وسلامتها العقلية.
ما يسمى Gaslighting.
(والاسم مشتق من فيلم قديم يحاول فيه الزوج أن يصيب امرأته بالجنون، عبر تشكيكه الدائم والممنهج في إدراكاتها للواقع).
٤ـ تكوين رد الفعل Reaction formation:
ومن حِيل الإيذاء الغريبة في العلاقات المؤذية، هو أن الغضب والتصيُّد (التلكيك) تكون أحيانًا محاولة دفاعية ـلا واعيةـ من المؤذي ضد الاعتراف بالهشاشة والاحتياج أحيانًا للشخص الآخر، وتكون نوعًا من موازنة ظاهرية للافتقاد والضعف الداخلي.
فالمؤذي إذا افتقدك (وافتقاده يكون افتقادًا لدعمك النفساني لصورته.. لا افتقادًا لشخصك) وقتها يقابلك باللوم والعتاب، أو تجده في فترات اللقاء التالي متهيجًا سريع الاستثارة يتصيد الخطأ ولا يمرر الهفوة.
٥ـ دور الشهيد:
ومن طرائق الدفاعية النرجسية المكررة هو أن يظهر دومًا بمظهر المضحي المعطاء.. ويحرص على أن يُصدِّر للعالم هذه الصورة، ويحرص على زرعها في زوجته وأولاده، فهو ببساطة ـفي نظر نفسه وكما يحرص أن يبدوـ الزوج المحترق من أجل بيته وأسرته، الذي يُرهق نفسه عملاً وسعيًا وكدًّا وبذلاً، لأجل هذه الزوجة المتطلبة التي لا تنتهي طلباتها وأطفالها الذين يقتاتون على جهده ومشقته!
٦ـ المراوغة والتلاعب:
مع المؤذي والنرجسي لا يمكنك أبدًا أن تصل للحقيقة، ومحاولات المناقشة المنطقية دومًا تبوء بالفشل.
وهو ما يسبب الإحباط دومًا لكل يدٍ تسعى للإصلاح أو تحسين العلاقة؛ لأنه ببساطة لا يستخدم أبدًا معيارًا خارجيًّا موحدًا للحكم على الأشياء، إنما هو معيار نفسه ومعيار الآخرين، الصواب هو ما رآه حسنًا والخطأ هو ما خالف منظومة أفكاره.
لا يمكنك أن تستخدم رأي اختصاصي أو كتاب أو قاعدة علمية لتجعلها حكمًا على أفعاله، فهو سيُسفِّه كل شيء وكل أحد ليبقى هو المقياس الوحيد للحكم على الأمور.
٧ـ الحوار أحادي الجانب/ الاستهانة بتجربتك:
الكلام معه دومًا يدور حوله، وإن بدأ حول مشكلة تواجهها أو ضائقة تمرُّ بها لا بد أن ينتهي الحديث دومًا إليه وإلى مواقفه وتجاربه ومشاعره هو!
فالحوار معه ببساطة حوار من جهة واحدة، أحادي الاتجاه وأحادي الصفة.
٨ـ المؤذي يكذب كلما تحركت شفتاه!
نعم هكذا ودون كثير تعليق.. هو يكذب دومًا.. حتى حين لا يكون هناك مبرر للكذب، حتى وهو يقول الصدق.. هو يقوله بما يكفي من التلون والغرضية ومحاولة التلاعب وإثارة التعاطف بما يؤهله ليكون الكذب الأجمل على الإطلاق!
المؤذي غالبًا ما يكون متحدثًا بارعًا.. أنيق النطق والعبارة.. وكاذبًا ماهرًا بامتياز.
وأعظم خصائص كذبه والتي تمنحه تلك المهارة؛ أنه يصل لمرحلة تصديق كذباته والتطابق معها والتحقق بها حتى يستحيل فصله عنه، هو ينخرط في كذباته بل ربما يدافع عنها كقضية ورسالة.
٩ـ يستخدم دومًا آلية (فرِّق.. تَسُد):
لكونه يسعى للسيادة دومًا وضمان بقائك.. فهو يحاول أن يدق معول الفرقة والاختلاف بينك وبين أحبَّتك وأهلك وأصدقائك.. يحاول أن يعزلك عن مصادر دعمك كافة ليدور كونك حوله وحده.. ويحاول داخل العلاقات المتداخلة أن تمرَّ كل الصلات بمحوره، كأنه مركز الدائرة التي تمر كل الأقطار الواصلة بين نقطتين على محورها عبره وحده.. بل ربما يستخدم هذا الأمر بين زوجته وأطفالها! يحاول أن يكون القرب دومًا متعلقًا به.. ويتم عبره وفي وجود وساطته.
١٠ـ الانكفاء النرجسي:
وهو وجه عقابي يظهر حين يشعر النرجسي بالجرح (الإهانة المتخيلة) تسللت إليه من كلمة غير مقصودة أو موقف ربما لا تفطن إليه المرأة ولم تمنحه اهتمامًا، ولكن وجدت فيه ذات النرجسي الحسَّاسة للنقد والازدراء جرحًا ووجعًا، وحينها يظهر الصمت الغاضب… وجهًا عبوسًا حينًا… وربما يتصنع قناع اللامبالاة، ولكنه يزيحك ويبعدك، ربما يرهقها في معرفة أسباب تغيره وسبب غضبه… يظن أن من المفترض أن تعرف من تلقاء نفسها.. بل ربما تُعَدُّ عدم ملاحظتها لخطيئتها في حقِّه خطيئة أخرى.. وجريمة جديدة.
الـمؤذي والـمرأة غير المتاحة
ومن السيناريوهات الشائعة للعلاقات المؤذية هو تلك العلاقة التي تجمع (النرجسي/السيكوباتي) بامرأة غير متاحة، بمعنى أن تكون مرتبطة بغيره أو مخطوبة أو متزوجة.
أو في حالات أخرى ربما كانت غير ممكنة الاقتران كزوجة أخ أو قريب، أو تقترب من حالة المحارم كأخت زوجته!
المهم أنها تلك الحالة بين رجل يهوى العلاقات العابرة (التي تحمل تحديَّات الصيد) ، ويتهرب من الالتزام، ويُقدِّم رغباته على واجباته، واحتياجاته على التزاماته، فتمنحه تلك العلاقة مكسبين عظيمين:
الأول: هو عدم اضطراره إلى الالتزام، وفي الوقت ذاته عدم اضطراره إلى منح مبررات تنصُّله وهروبه، كأنه هو المضطر بسبب الظروف، والعاشق الممنوع بسبب القدر، وكأنه الذي يعاني ويلات البعاد الاضطراري، ويقاسي مقتضيات عدم الإمكان الجبري.
والمكسب الثاني الذي تمنحه هذه العلاقة ضمنيًّا، والذي يجعله منجذبًا لها في الأصل؛ هو تلك الممنوعية والتحدي فيها.. فكما ذكرنا، المؤذي صيَّاد بالطبيعة، والصياد يهوى المطاردة والمناوشة والعَدو وراء فريسته و(يزهد السهل المتاح) الذي لا يغويه باستنفاد طاقته وحشد مهاراته، ويكره كل ما لا يمنحه الإمساك به شعورًا بالظفر.
كما أنه في هذه العلاقة مع امرأة مرتبطة بغيره، كأنه قد غلب في جولة ضمنية هذا الرجل الآخر.. وحاز على أحد مقتنياته وسلبه غنيمته الكبرى.. (قد صاد صيدًا ينتمي لغيره.. فهو صيد على صيد).
لأن ببساطة في دستور النفسية النرجسية: (كل متاح مزهود، وكل ممنوع مُشتهى).
والحب لديه مقرون بالمطاردة، والمباح بدءًا لا يغريه بالتناول! والرجل عمومًا قد لا يُغريه الأمر ليدفع كلفة شيء قد حصل عليه مجانًا!
وكلُّ رجلٍ مؤذٍ إلَّا فيما ندر.. يهرب من الالتزام بالمبررات كافة، ولكنه لا يتورَّع أبدًا عن طلب علاقة مجانية، أو لذة بعد المطاردة بلا ثمن!
وتخرج الأنثى من العلاقة لا تحمل فقط جرح الفقد؛ وإنما حزمة ضخمة من المشاعر السلبية تجاه الذات، وجرعة مُركَّزة من الأسرار وأحاسيس الذنب.
بل ربما حتى شعورها بالاستناد على اللـه والرُّوحانية قبل العلاقة لم يعد فعَّالاً؛ فقد صنعت تلك المخالفة لمعتقدها حاجزًا نفسيًّا مع الرب/ سندها القديم!
حينها تصبح الوحدة والوحشة والغربة أشد وأعظم، ولا شيء سوى مرارة مذاقات التمزق بين اللهفة وبين الوجع، بين الشوق وبين الحسرة.
بل ربما تخرج أحيانًا من خذلانها وقد فقدت في ذوبانها القديم توصيفها لنفسها.. ناهيك بشعور غير محبب بالدنس وفقدان عذرية القلب أولاً قبل اللحم!
الهوس العكسي بالجنس
وخصيصة أخرى لدى المؤذي ـرجلاً كان أو امرأةـ هي أنه أهم من أن يشتهي.. هو أن يكون محلاً لاشتهاء الآخرين.. أن يكون مرغوبًا يدور الآخرين في فلك الانجذاب الجنسي له. أحيانًا لا يكون الجنس هو مطلبه الأساسي؛ إنما ذلك الاشتهاء في عيون الآخرين، المؤذي ـرجلاً كان أو امرأةـ ليس فقط شهوانيًّا، بل هو مدمن للإغواء!
إدمــان الحـــب
هناك فئة من الناس ـوبالأخص لدى المؤذينـ يُدمِنون حالة الحب في البدايات، مهووسون بذاك الشغف الذي تحمله قصص الهوى في أوائلها، يعشقون ذلك التجاذب والتصارع وربما التحدي الذي يشحن أجواء البداية، وربما حينًا هذا الترقب والتحسس والانتظار واللهفة، وربما تلك الحرارة الأولى، والانفعال الجارف.
العجيب أنهم يظنون أنفسهم مصابين بطلب العمق والدسامة وقوة العلاقة، وأنهم أكثر حساسية ممَّن سواهم، لذا لا أحد يفهمهم ولا أحد يستوعبهم!
الخواء لعنتهم الدائمة، وشكايتهم المُكرَّرة!
ولأنهم لا يتمكَّنون من تفسير الأمر وفهم تكوينهم منخفض الحساسية؛ فيبدأون في عقلنة حالة الإحباط ومنحها تبريرات منطقية.. فيظنون مثلاً أن الشريك لم يعد يحبهم، أو أنه قد قصَّر في التجديد وتحريك الراكد حتى فترت العلاقة! وأن العلاقة لم تعد تشبعهم.. أو ربما أنهم أساؤوا الاختيار من البداية!
لا يُدرِكون أن ارتفاع الحد الأدنى اللازم لشعورهم.. فقط يستوجب أن يؤتيهم طبقة مفرطة من الإحساس والحالة ليتأثروا، وهو بالضبط ما تمنحه لهم بدايات الحب.. فيخدعون بغير قصد، وينخدعون بغير وعي، ويتورطون.. وينخذلون! ويخذلون، وتتكرر المأساة.
ومع الوقت.. يُطوِّرون نمطًا ـلا واعيًاـ من التعامل مع هذا الانخفاض في الحساسية، عبر توخي البدايات والتعددية، والعلاقات المتتابعة، (وربما في الحالات المتطرفة.. العلاقات المتوازية والدونجوانية).
هم ببساطة يصبحون مع الوقت معاقين انفعاليًّا، يحملون عجزًا عاطفيًّا مستورًا يتجلَّى في هذا التمزق الدائم والمتتابع بين وجوه العابرين.
الـمـؤذي أبـــًا
"يتساءل الآباء لماذا تحمل مياه القنوات طعمًا مُرًّا. وهم بأنفسهم من سمَّموا النبع! "
"جون لوك"
الأب المؤذي والأم المؤذية لا يمكن أن يخرج عنهما إنسانٌ سَويٌّ مستقرٌ، لذا نجد الاضطرابات النفسية تعصف بالأبناء؛ بل إن العامل المشترك بين كثير من الأمراض العُصابية هو الإيذاء الطفولي والصدمات السابقة، وبالأخص مشكلات الارتباط مع أب مؤذٍ أو أم مؤذية.
ـ الأب المؤذي (أو الأم المؤذية) يمارس العنف تجاه أهل بيته وكل من ألقته الأقدار تحت سلطته الأبوية!
العنف الجسدي بالضرب والصفع، والعنف الكلامي بالسباب والإهانات والتهكم والألقاب والمقارنة والتوعد واستخدام السوط المبتذل (الدعاء عليهم) أحيانًا، والعنف الشعوري بالاستهانة بمشاعرهم، وتعمُّد الضغط على مواطن الألم النفسي، ودوام الاتهام، وبث اليأس، وإحكام شعورهم بالعجز محاولةً منه ليبقى دومًا في صدارة المشهد.
التأرجح بين الرؤية المثالية والشيطنة:
تبدأ النظرة إلى الطفل لدى الأب النرجسي أو الأم النرجسية من كونه امتدادًا لذاته، لذا فهو يستمد نظرته إليه من نظرته إلى نفسه.. فيحبه ويُقدِّسه في الأصل ويراه في أحسن ما يكون وبالأخص حين يكون الطفل الأول أو (الطفل الثمين: الذي جاءهم بعد شوق.. أو الذكر الأول أو الأوحد في طابور من الفتيات بالعائلة).
يرى فيه النرجسي نفسه وهو طفل محروم فيحاول أن يعوِّض ذاته عبره، ويمنح نفسه من خلاله، وينقذ نفسه عبر البذل والعطاء لهذا الطفل. فتجده في البدايات يُدلِّل الطفل ويقوم على رعايته.. فقط إن كان الطفل يوافق هذه الصورة (أن يكون امتدادًا للأب أو انعكاسًا محضًا لصورته)، كأن الطفل دمية لامعة يُسقِط عليها اسمًا وشخصًا وتكوينًا ويعامله من خلالها!
فإذا بدأت شخصية الطفل المستقلَّة تظهر، أو تسعى للتحرر من فلك الأب المسيطر، حينها تنفك تلك الرابطة بشدة ويتحول تصور الأب النرجسي أو الأم النرجسية عن الطفل كأنه شيطان وعمل غير صالح، أو نقمة ربانية وشقاء أبدي.
ويسقط عليه كل إحباطاته ومشاعر الخزي والعار وأفكار النقص.
حب النرجسي دومًا لأطفاله هو (حب مشروط)، مشروط بأدائهم وصورتهم وموافقتهم لما يراه خيرًا لهم!
النرجسي لا يعرف (أنا أحبك هكذا.. كما أنت)! بل يعرف فقط (أنا أحبك؛ لأنك كذا أو تفعل كذا!)، تعليل الحب خطيئة قد تنشئ نرجسيًّا جديدًا!
ـ وأحيانًا يحوِّل الوالد النرجسي (الأب أو الأم) خيالات العظمة لديه إلى أطفاله، بعدما ارتطمت خيالاته الخاصة بالواقع وإحباطه وفقر الفرص، فيبدأ أحيانًا في النظر إلى أطفاله وهم يحملون لمعة بارقة مُفرطة، ويغذِّيهم بخيالات العظمة والنجاح المبهر، ويلقمهم أحلامًا غير واقعية ومفرطة التخيل حتى يتطابق الطفل مع الصورة الممنوحة له من قِبل الأب، وتنشأ هذه الذات المثالية بمنأى عن الواقع والإمكان، فيحيا ما تبقَّى من عمره في هذا الفصام النكد، والمفارقة بين الصورة اللامعة البراقة التي تربَّى عليها، وبين الواقع والذات الحقيقية المتاحة القاصرة بشكل طبيعي.
التـعـافـي
"لن تستطيع أن تُحارب قبح العالم دون أن تتلوث منهُ بشيء."
" فيودور دوستويفسكي"
بوصلتك!
لا تقبل بعلاقة لا تسعك.
لا تخنق زواياك بالارتباط بروح ضيقة لا تكفي تمدداتك.
توقف عن التبرير والبحث عن إلهاءات لصرخات حاجاتك غير المشبعة.
لا تأمل تغيير بصمات روح لا تشبهك.
هـل تُجـدي المواجـهة؟!
نادرًا ما تسبب المواجهة تغييرًا لدى المؤذي أو النرجسي؛ بل ربما تثير دفاعاته وتشحذ قدراته على قلب الحقائق والتلاعب بإدراكنا لندخل في نقاش عقيم يستنزفنا ثانية، أو ربما ينقلب الأمر لنشعر بالذنب أو نعتذر نحن على سوء الظن أمام قدرته الاستثنائية على التنقل بين الترغيب والترهيب وبين المداهنة والمواءمة والتهديد.. وبين أدلته على مظلوميته واستثنائية العلاقة معه وعدم انطباق القواعد عليها!
النرجسي لا يرى نفسه نرجسيًّا في الأغلب، ولا يرى نفسه مؤذيًا أو مسيئًا، وربما لا يرى في قدرته على الإيذاء سوى دلالة على قوة الشخصية.
الاســتحواذ
إن العلاقة المؤذية تستحوذ عليك.. تحتلُّك.
كل مَن ذاق العلاقة المؤذية منا يعلم كيف تستهلكنا بالكامل في الوجود والغياب، وفي اللقاء والفراق على حدٍّ سواء… كلنا يعرف كيف تتعطل مواهبنا، ونختصر حياتنا في هذه العلاقة فقط.. تسدُّ علينا آفاق الرؤية بكاملها، ويتم اختزال كل طموحاتنا وآمالنا في هذه العلاقة فقط.. تتركز التطلعات والخيبات في هذه العلاقة المضطربة فقط.. نجد المتفوق يرسب، والطَموح يرضى، والموهوبة تركد، وذات الأحلام تفقد الأمل.
ربما نظن داخل هذه العلاقة أننا اكتفينا بها، وأنها أغنتنا عمَّا سواها؛ ولكن في الحقيقة هي استنفدت طاقتنا بأسرها، فلم يَعُدْ لدينا من الطاقة النفسية والعاطفية ما يكفي لنفعل أي شيء غيرها.. أصبحت حياتنا بأسرها أمرًا ثانويًّا يدور على هامش هذه العلاقة.
والتعافي من هذه العلاقة يحرِّر هذه الطاقات المهدورة، ربما في البدايات يصنع فراغًا وخواءً مُوجِعًا يُرهقنا قليلاً، ولكن بعد قليل نستعيد أنفسنا ونعيد اكتشاف ذواتنا، ويمنحنا التعافي والتجاوز تحريرًا لطاقتنا، لنتمكن من استئناف طريقنا.
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
لمزيد من الاطلاع: