كيف تتعامل مع ابنك الانطوائي؟ (2)
التحقت بُعيد تخرجي في الجامعة بدورة تدريبية لمدة ثلاثة أشهر مكثفة – من أمتع وأفيد أيام حياتي- هدفها إعداد شباب الخريجين لسوق العمل وكان من بين متطلبات هذه الدورة تقديم عروض تقديمية (presentations) بشكل منتظم استعدادًا لدخول منافسة شرسة مع ما يقرب من 30 مجموعة للفوز بالمركز الأول، وأذكر قلقي وتوتري الكفيلين بإصابتي بسكتة قلبية عند إجراء أول عرض تقديمي لولا تحفيز المُدربة الرائعة وحثها إياى بإيماء رأسها للاسترسال وإطرائها على جمال فكرتي وحُسن تناولي للفكرة، وعندما لاحظت إجهادي وتوتري نصحتني بالدأب على التدرب ولو أمام المرآة قبل تقديم العرض إذ كلما تدربت تبدد التوتر. وقد أخذت بنصيحتها ورحت أتدرب كثيرًا حتى فازت مجموعتنا بالمركز الأول والحمد لله. لكن إحساسي البائس بالخوف من التحدث أمام مجموعة من الناس دائمًا ما كان يشغلني، أفكان هذا نتاج تربيتي أم طبيعتي وتكويني الجيني؟
ومن حسن الحظ أن هذه المسألة شغلت باحثين من جامعة هارفارد عكفوا على اكتشاف الجذور البيولوجية للميول والأمزجة لدى البشر.
ومن بين هؤلاء العلماء جيروم كاجان (Jerome Kagan)، وهو واحد من أبرز علماء "علم نفس النمو" في القرن العشرين، وقد كرس مسيرته العلمية لدراسة التطور والنمو الانفعالي والمعرفي لدى الأطفال.
وتتبع كاجان في سلسلة من الدراسات الرائدة والمُطولة أطفالًا منذ طفولتهم حتى مراهقتهم ووثَّق مدى نموهم وتطورهم من الناحية الفسيولوجية وما يتعلق بشخصياتهم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النوعية من الدراسات تستغرق وقتًا طويلًا وتكون مُكلفة ومن ثم نادرة لكن النتيجة تكون مُبهرة بما بُذل فيها من جهد.
وقد بدأت إحدى هذه الدراسات في عام 1989 ولا تزال مستمرة وجمع لها البروفيسور كاجان والفريق المساعد له خمسمائة طفل رضيع في الشهر الرابع من عمرهم في مختبره لنمو الطفل بجامعة هارفارد، حيث كانوا يأملون في أن يتمكنوا من تحديد أي من الأطفال يُحتمل تحوله إلى انطوائي أو انبساطي بناءً على تقييم مدته خمس وأربعون دقيقة.
عرَّض كاجان وفريقُه أطفاله الخمسمائة ذوي الأشهر الأربع لتجارب جديدة عليهم مختارة بعناية. وقد سمع الأطفال الرضع أصواتًا مسجلة وأخرى لفرقعة بالونات ورأوا أشياء متحركة وملونة تتراقص أمام أعينهم وشموا رائحة الكحول في قطع من القطن الطبي.
وكان لهم ردود أفعال متفاوتة بشكل كبير على تلك المحفزات الجديدة. فراح نحو 20% منهم يصرخون وهم يرفعون ويخفضون أذرعهم وسيقانهم. وأطلق كاجان على هذه المجموعة اسم "المجموعة ذات رد الفعل العنيف".
في حين ظل نحو 40% من الرضع هادئين وساكنين وكانوا يحركون أذرعهم وسيقانهم من آنٍ لآخر، ولكن دون أن يحدثوا كل تلك الحركات الصاخبة العنيفة برفع وخفض أطرافهم. وقد أطلق كاجان على هذه المجموعة الثانية اسم "المجموعة ذات رد الفعل الهادئ".
أما نسبة ال 40% المتبقية فقد تراوحت استجاباتهم بين هاتين المجموعتين المتناقضتين. وفي نظريته التي نفت التوقعات البديهية بشكل كبير، توقع كاجان أن الرضع الذين ينتمون للمجموعة ذات رد الفعل العنيف – ممن كانوا يقومون بضرب أذرعهم ارتفاعًا وانخفاضًا بقوة – هم من يحتمل بشكل كبير أن يصبحوا هادئين عندما يصلون لمرحلة المراهقة.
وقد عاد الكثير من هؤلاء الأطفال إلى معمل كاجان وهم في سن العامين والأربعة والسبعة أعوام وكذا في سن الحادية عشرة، لمتابعة اختبار ردود أفعالهم تجاه أشخاص وأحداث جديدة.
ففي سن السنتين، قابل الأطفال سيدة تضع كمامة واقية من الغازات وترتدي معطفًا لا يُلبس إلا في المعمل، ورجل يرتدي زي المهرج، و«روبوت» يتم التحكم فيه لا سلكيًّا.
أما في سن الحادية عشرة، فقد قام شخص راشد غريب عنهم بعقد مقابلات معهم دارت حول حياتهم الشخصية. وراقب فريق العمل المعاون لكاجان كيف كانت ردود أفعال الأطفال على هذه المواقف الغريبة، مع رصد لغتهم الجسدية وتسجيل معدل ضحكهم وتبسمهم بطريقة عفوية وحديثهم.
كما أنهم أجروا مقابلات مع الأطفال ووالديهم حول كيفية تصرف الأطفال خارج المختبر. هل يفضلون الوجود مع صديق واحد مقرب أو اثنين فحسب بدلًا من مجموعة من الناس؟ هل يرحبون بزيارة أماكن جديدة؟ هل لا يهابون الأنشطة التي تنطوي على مخاطر أو أنهم أكثر حذرًا؟ هل يعتبرون أنفسهم خجولين أو جريئين؟ وقد كبر الكثير من أولئك الأطفال تمامًا على النحو الذي توقعه كاجان.
فالرضع أصحاب ردود الأفعال العنيفة – نسبة ال 20% الذين صاحوا وتذمروا من تلك الأشياء التي تتحرك وتتمايل فوق رءوسهم- كان من المرجح أن تتطور شخصياتهم لتكون جادة ودقيقة أكثر من المجموعتين الأخريين. أما الرضع أصحاب ردود الأفعال الهادئة فكان يرجح أن يكبروا ليكونوا ذوي شخصيات مسترخية وواثقة أكثر من الآخرين.
بمعنى آخر، فإن كلًّا من النوعين من ردود الفعل يوازي مفهومي الانطواء والانبساط. وقد انتهى كاجان في كتابه " Galen’s Prophecy" في سنة 1998 إلى أن "توصيفات كارل يانج للشخصيات الانطوائية والانبساطية والمكتوبة منذ أكثر من خمس وسبعين سنة مضت تنطبق بدقة غريبة على جزء من المراهقين ذوي الاستجابات القوية والهادئة في أبحاثنا".
إذن، فالانطوائية والانبساطية ما هما إلا طبيعتان في التركيب الجيني للطفل لكنه قد يخرج عن طبيعته عندما يكبر إذا تطلبت أهدافه ذلك، ولكن الخروج عن الطبيعة يكون بحساب حيث إنه يستهلك طاقة بمعنى أن الشخصية الانطوائية تشحن طاقتها بالجلوس في هدوء والاستمتاع بالعالم الداخلي، أما الانبساطية فتشحن طاقتها بالجلوس مع الناس وتحت الأضواء.
وأخيرًا، أود أن أقول لكل أم ولكل أب: إذا اكتشفت أن ابنك ذو طبيعة انطوائية فلتوفر له البيئة المناسبة التي يسيطر عليها الهدوء. حينئذ ستجده لطيفًا ومستغرقًا في التفكير ويتمتع بقدرة فائقة على التركيز وستستمتع بصحبته. وإذا كان ابنك خجولًا فلا تسمْعه ذلك، فلو أنه سمعك تقول عنه إنه خجول فسيتوتر وسيعتبرها صفة ثابتة فيه بدلًا من اعتبارها مجرد انفعال عابرٍ يمكنه أن يتعلم كيف يتحكم فيه؛ إذ إن الطفل يعي أن صفة الخجل نقيصة في مجتمعنا، ويمكنك دعمه بأن تقول على سبيل المثال: "أحمد يفضل أن يأخذ وقته في التفكير لدراسة الأشياء والمواقف الجديدة"، وعندها ستتيقن أن ابنك كنزٌ بما لديه من طاقات إبداعية لا تظهر إلا بدعمك إياه، ومن ثم سيكون ابنك مشروعك الناجح بحق، وللحديث بقية.
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/how-do-you-deal-with-your-introverted-child/
https://asmaanawar.com/words-effect-on-brain/
https://asmaanawar.com/how-do-you-make-your-son-a-genius/
https://asmaanawar.com/how-do-you-make-your-son-insist-on-success/
https://asmaanawar.com/how-do-you-praise-your-son-properly/
https://asmaanawar.com/the_effect_of_stress_on_children/
https://asmaanawar.com/at-is-the-necessity-of-cyber-security-for-your-son/