الحساسية المفرطة سلاح ذو حدين
لا يسعني إلا أن أصف الحساسية المفرطة بأنها سلاح ذو حدين فبها يدرك الإنسان أدقَّ التفاصيل التي قد تسبب له حزنًا عميقًا، لكنها تُدخِل عليه السرور البالغ في الوقت نفسه حينما تكون سببًا في رفع مستوى وعيه فيرتقي إلى أعلى درجات الإيمان. ويا للعجب ربما ساءتنا بلادة حس البعض؛ لكن في الوقت نفسه يعاني البعض الحساسية المفرطة التي تُمرِض أجسادهم وتُجهد نفوسهم!
وأول من صاغ مصطلح الحساسية المفرطة باحثة علم النفس «إيلين آرون» في منتصف تسعينيات القرن العشرين عندما نشرت كتابها "The Highly Sensitive Person" وبعدها راح الاهتمام بالمصطلح يتزايد. وقد أفادت أن الشخص ذا الحساسية المفرطة يعالج الأمور بتعمق، ويتسم بسرعة الاستثارة، ولديه استجابة انفعالية لافتة، ويستشعر أدقَّ التفاصيل.. وكلها صفات كالسلاح ذي الحدين.
فنجد لدى الشخص الحساس طريقة مذهلة في معالجة المعلومات بتعمُّق، فتجده لا يكلُّ ولا يملُّ من ربط ما يحدث في الحال بتجارب وخبرات سابقة ومواقف مشابهة، وهو في حالة عقد مقارنة دائمة بين الأحداث بوعي منه أو بدون وعي، ليَخلُص في النهاية إلى دروس مستفادة.
وتجده يتخذ قراراته ببطء لأنه يودُّ التفكير في الأمور من كل الجوانب بدقة بالغة؛ لأن طبيعته أن يضع الأمور في نصابها؛ لذا فغالبًا ما تتسم قرارته بالحكمة، ومع ذلك فهو ليس معصومًا.
وقد ثبت علميًّا أن الشخص الحساس تعمل أغلب خلايا مخه المعنية بمعالجة المعلومات عندما يفكر في أمرٍ ما مقارنة بغيره. وبناءً عليه فهو يتمتع بنشاط ذهني من شأنه أن يُشعره بالإجهاد والإرهاق أكثر من غيره؛ فيحتاج إلى الراحة.
أما الصفة الثانية فهي سرعة الاستثارة؛ فتجد الشخص الحساس ينتابه القلق عندما يُثار بأشياء من قبيل الفوضى الضوضاء والثرثرة والحفلات الصاخبة والأفلام والبرامج التليفزيونية التي تبعث على العنف وما إلى ذلك، وتجده يتجنب المواقف المثيرة للانفعال أكثر من غيره نتيجة لما اكتسبه من تجاربه السابقة.
والاستجابة الانفعالية هي الصفة الثالثة، وقد ثبت بالأدلة العلمية أن ذوي الحساسية المفرطة يتجاوبون سواء مع التجارب الإيجابية أو السلبية؛ فهم أكثر الناس تعاطفًا، وقد تبدَّى ذلك في صورة نشاط زائد في بعض الخلايا العصبية بأمخاخهم.
ولا تقتصر الحساسية المفرطة على إلمام صاحبها بما يشعر به، بل يستشعر ما يراود غيره إلى حد كبير. فعندما يلحظ الحزن على شخص تنشط لديه الأعصاب المسئولة عن الشعور بالتعاطف؛ مما يحمله على اتخاذ تصرفٍ يُخفِّف من وطأة الحزن لديه. وعمومًا فإن من طبيعة المخ أن ينشط في حالة التعاطف لدى أصحاب الحساسية المفرطة مقارنة بغيرهم، حيث يلاحظون المشاعر القوية من أي نوع.
أما الصفة الرابعة فهي استشعار الشخص الحساس أدقَّ التفاصيل؛ فتراه يلاحظ ما لا يلاحظه غيره، وما من شك في أن استيعاب هذه التفاصيل الدقيقة مفيد على كل المستويات بدءًا بالإنعام بأبسط ملذَّات الحياة، وصولًا إلى إعداد خطط للرد في المواقف بناءً على إدراكه الواعي للإشارات غير اللفظية التي تصدر عن الآخرين والتي تعبر عن أحوالهم المزاجية ومدى صدقهم.
لكن لا يسعني إلا ترديد قول دوستويفسكي: «أقسم لكم يا سادةُ إن الوعي
الزائد مرض، بل مرض خطير جدًّا».
لكن هل للحساسية المفرطة علاقة بالجينات الوراثية؟
نعم، كما يقول العلماء، فيصف عالم النفس كارل يونج الشخص الحساس بأنه شخص لديه معالجة حسية فائقة أو ما يُعرف بـ «الحساسية الفطرية»، أي يولد بها الإنسان، وهو شخص ينتبه إلى أدق أنواع المثيرات من حوله، فيعي ما يجري حوله تمامًا، ولديه إدراك حسي قوي للمثيرات كلها الإيجابية والسلبية.
وقد اكتشف باحثون في علم الأعصاب في الآونة الأخيرة أنه ربما أثرت جينات الإنسان على مدى حساسيته للمعلومات الحسية، وأوضحوا أننا نتفاوت في هذا الجين، ويرتبط هذا الاختلاف الجيني بزيادة النشاط في مناطق معينة من المخ؛ مما يؤدي إلى استجابات حسية أقوى وحساسية أكبر عند مشاهدة كل من الصور السلبية والإيجابية.
وأشارت دراسة على المخ شديد الحساسية بالرنين المغناطيسي الوظيفي إلى أنه أكثر استجابة للصورة الحسية، وأن مناطق المخ التي أظهرت النشاط الأكبر ترتبط بالاستجابة التي تتسم بالتعاطف، وترتبط أيضًا بالوعي والإدراك ومعالجة المعلومات الحسية.
لكن مع الأسف يُعدُّ الشخص الحساس أكثر عُرضة للشعور بالكرب من غيره! لكن ما العمل لمن يعاني من الحساسية المفرطة وما يصاحبها من آلام نفسية وعضوية؟
إن القدرة على أن يكون الشخص حساسًا ومطواعًا، وفي الوقت نفسه لا تكسره الصدمات، جديرة بمساعدته على مواجهة أحاسيس ومشاعر من الماضي والحاضر دون أن تطغى عليه، بأن يتفهم حساسيته ولا يسمح لها بأن تكون نقطة ضعف لديه، بل يجعلها حافزًا للاستقواء على اجتياز مصاعبها؛ فيكون بذلك قد حظي بمميزات الحساسية وما تنطوي عليه من استشعار لدقائق الأمور، وتلافى مخاطرها بما تسببه من كروب نفسية وآلام جسمانية أحيانًا.
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/journey_to_my_website/
هل ذوي الحساسية المفرطة هم الأكثر ميلا للاكتئاب؟