أكتوبر 13, 2024

|

بواسطة: Jihad Muhammad

|

Categories: قلم يقرأ

إسلام بلا مذاهب - ماهية الإسلام

أسماء راغب نوار | إسلام بلا مذاهب - ماهية الإسلام

الإسلام دين الفطرة 

 

الإسلام دين الفطرة دون منازع، أى أنه الدين الذي يتلاءم كل الملائمة مع الخليقة، ومن هنا صح لنا ولغيرنا أن نسميه دين البشرية، وما كان الإسلام ليسمى دين البشرية اعتباطًا أو تحمسًا، ولكن ما جاء به هذا الدين من دستور يقبله العقل، وهداية يستنير بها القلب، وعمق يرتكز عليه الإيمان، وتطور يصلح لكل زمان ومكان، وشريعة تنظم أحوال المجتمع، ومساواة تربط بين جميع الناس، وتأمين للنفس البشرية يجعلها تطمئن إلى حياة أخرى تلقى النعيم بقدر ما قدمت من خير، كل ذلك وغيره جعل الإسلام أقرب إلى طبيعة النفس البشرية دينًا ترتضيه، وسراجًا تستهدى به، وصمام أمان يرد على النفس طمأنينتها إذا هزها ريب أو اعتورتها شكوك.  

فالإسلام عقيدة بوحدانية الخالق، وإيمان برسالة محمد إلى الناس كافة، تلك هي الرسالة التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الرشاد، ومن الفوضى إلى النظام والاستقرار.  

 

ثبات المسلم على دينه وندرة التحول عنه: الإسلام وعلاقته بالطبيعة البشرية

 

ويمتاز الإسلام عن غيره من الأديان بأن النفس متى ارتضته وآمنت بروحه واطمأنت إلى تعاليمه لا تحيد عنه أو ترتضى غيره بديلًا، ذلك لأنه أقرب إلى طبيعة النفس البشرية، ولذلك فإننا لم نجد مسلمًا خرج عن إسلامه إلى غير الإسلام إلا في حالات نادرة لا يكاد يحسب لها حساب، فهذه فرنسا على سبيل المثال قد استعمرت الجزائر سنة 1830 ومكثت فيها حوالى 130 سنة، حاربت فيها الإسلام حربًا لا هوادة فيها، وبثت المبشرين في جميع أصقاع تلك البلاد، فما استطاعوا أن يخرجوا غير مسلم واحد عن دينه ، أي أن مائة وثلاثين سنة من هدم الإسلام والتبشير بالمسيحية لم تستطع أن تخرج من الإسلام إلا مسلمًا واحدًا، وهو فضلًا عن كونه ثمنًاً باهظًاً، واضحة على أن المسلم لا يخرج من دينه إلا في النادر جدًّا. وما ذلك إلا لأنه أوفق دين للخليقة، وأنسب عقيدة للإنسان، فى حين نرى كل يوم عشرات من أبناء الديانات الأخرى إلى يومنا هذا يدخلون فى الإسلام راضين متحمسين. 

 

فضل الإسلام في بناء الحضارات ونهضة الشعوب: منارة للمعرفة والتحضر

 

ومن هنا كان فضل الإسلام على الشعوب عظيمًاً، لقد مدن الإسلام كثيرًا من الأمم، بل ما من شعب اعتنق الإسلام إلا وسار فى مدارج الحضارة، وآية ذلك واضحة في جزيرة العرب نفسها التي انتقلت بعد إسلام أهلها إلى أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنشر راية العرفان والإيمان خفاقة فى جميع أنحاء الأرض، ولم يعرف للعرب من الانتصارات الخاطفة والفتوحات الرائعة ما قد عرف لهم فى إسلامهم، ومعنى ذلك أن الإسلام صهرهم ونظم صفوفهم وصقل وحدتهم وجدد إيمانهم بأنفسهم، فانطلقوا إلى ميدان الظفر والسيادة. ينتقلون من نصر إلى نصر، ويفتحون مصرًا بعد مصر، وما من شعب دخل في الإسلام أو ذهب الإسلام إليه إلا أصبح شعبًا راقيًا مفكرًا، زالت عنه غمة الجهل واستضاءت عقول أبنائه بنور الثقافة والمعرفة. 

وجود الإله الواحد وخلق الكون: 

والإسلام يقول بوجود الإله، ويدعو إلى الاعتقاد به إلهًا واحدًا لا شريك له، خلق الكون وفطر السموات، والأرض.

والعقل السليم لا يستطيع أن ينكر وجود الخالق، فالبديهيات الأولى تقول بأن لكل معلول علة، وقياسًا على ذلك كان لكل مخلوق خالق، ولقد لجأ المفكرون إلى إثبات وجود الله بوسائل شتى عديدة، لعل أيسرها طريقة الفيلسوف ديكارت الذي توصل إلى معرفة الله عن طريق نفسه "﴿﴿الأنا"﴾﴾، فحاول أن يكتشف مصباح "﴿﴿الأنا"﴾﴾، وعلى نور هذا المصباح اكتشف كل ﴿﴿اللاأنا﴾﴾.

 

فكرة ديكارت حول الوجود والإيمان: التأمل العقلي ودليل وجود الخالق

 

وتتلخص فكرة ديكارت فى أن كُلاً من المؤمن والكافر والشاك يقيم إيمانه أو كفره أو شكه على رأى صادر من عقله وفكره، وما دمت أفكر أنا إذن موجود، وإذا كنت موجودًا فإما أن أكون أوجدت نفسي أو  أوجدني غيري، فإذا كنت أنا الذي أوجدت نفسي فإن في عيوبًا ونقائص لابد من تلافيها كي أصل إلى الكمال، ولكني برغم شوقي إلى الكمال فإني لا أستطيع تحقيقه، وما دمت لا أستطيع تحقيقه فأنا عاجز، وما دمت عاجزًاً عن تحقيق الكمال لنفسي فأنا من باب أولى أشد عجزًاً عن خلقني وإذن فقد خلقني غيري، وهذا الغير لا بد أن يكون أكمل مني، لأن الناقص لا يخلق ما هو أكمل منه، ولا يمكن أيضًاً أن يكون مماثلًاً لي، فلم يبق! إذن إلا المطلق الخالق الأحد.

وما دام العقل قد توصل إلى معرفة الخالق الأعظم فإن الإنصاف يقضي بالإيمان به، ومتى تم الإيمان به انتقل الإيمان إلى مرحلة أخرى، وهي أن الكون جميعه من صنعه، ولا يمكن أن يكون قد وجد بطريق المصادفة كما يذهب بعض من يعتبرون أنفسهم من المفكرين، ذلك لأن المصادفة أمر أقرب إلى الخرافة، وإن وجدت في حياة الناس في أمور يسيرة فلا يمكن أن تحدث في خلق الكون. ذلك أن حدوثها في حياة الناس يكون في ظل الإيمان بوجود الله، هذا لو ضربنا صفحًاً عن الرأي الذي ينكر المصادفة في جميع حالاتها إنكارًاً كليًا.ً.

سماحة الشريعة الإسلامية :الإسلامية:

الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي الإيمان بالله إلهًا واحدًا خالقًا للكون لا شريك له، وبمحمد رسولًا منه إلى الناس كافة، والإيمان بالأنبياء والرسل جميعًا واليوم الآخر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت على النحو المعروف والمذكور مفصلًا تفصيلًاً جميلًا في كتب الفقه وأحكام الفرائض وفضائلها.

فالإسلام لسماحته واتساع أفقه لم يقف من الأديان السماوية السابقة له وقفة تحد أو نكران أو جحود، وما كان له أن يقف ذلك الموقف، لأنه من عند الله الذي أرسل الرسل وأنزل الشرائع السابقة له، فعقيدة الإسلام شقيقة للعقائد السماوية السابقة، وكلها تدعو إلى الخير وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وإنما جاء الإسلام فاستكمل ما يحتاجه تقدم الزمن من تطور في الفكرة الأزلية ملائمًا للزمان الذي نزل فيه والأزمان اللاحقة به. وقد جمعت الآية الكريمة هذه المعاني في قوله تعالى في سورة البقرة.

وأما شريعة الإسلام وما قد اشتملت عليه من معاملات وربط علاقات الناس بعضهم ببعض، ونظام الأسرة والمواريث والوصية، فقد شهد أساطين رجال القانون من الأوربيين أنها أسمى الشرائع جميعًا في هذه الناحية، ومن المعروف أن المشرعين الفرنسيين حينما وضعوا القانون الفرنسي كانوا يستحضرون أمامهم كتب الشريعة الإسلامية يأخذون منها بين الحين والحين ما يطيب لهم من نصوص أو يروق أمامهم من أحكام، ولولا المكابرة لأخذوا كل مواد قانونهم من الشريعة الإسلامية، على أن المنصفين منهم لا يفتأون يكررون في كتبهم ومقالاتهم ومحاضراتهم أن الشريعة الإسلامية هي أم الشرائع وأسماها وأقومها.

 وإذا لم يكن هذا الكتاب كتاب شريعة إلا أن طبيعة هذا التمهيد تقتضينا أن نقف مع هذه الشريعة السمحة بعض الوقفات نستشف من خلالها المدى البعيد الذي أثر في بناء المجتمع فجعلها بحق سيدة الشرائع. فنظام التوريث في الإسلام قد بُني على أسباب من الحكمة تنظم توزيع تركة المورّث تنظيمًاً عادلًاً منطقيًّاً لا قبض فيه ولا إسراف، فهو يحول دون تجمع الثروة في أيدٍ قليلة، كما يحدث في بعض النظم التي تخص الابن الأكبر وحده بكل الميراث، ومن عداه من إخوته وأخواته يعيشون في ظل الحاجة والفاقة والحرمان، فيكونون معاول هدم في جسم المجتمع. ومن أجل ذلك أيضًاً هذّب الإسلام نظام الوصية، فمنع المورّث من أن يوصي لأحد من ورثته.

 وقد توخى الإسلام في نظام التوريث العدل بالنسبة للرجل والمرأة، وراعى أثر كل منهما في حياة الأسرة والمجتمع، فلما كانت أعباء المرأة ونفقتها ومطالب أولادها كلها محمولة على عاتق الرجل، كان من العدل أن ينال الرجل من الميراث ضعف ما تناله المرأة "وللذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين"، أما بقية التوزيع - ونعني به المستحقين من أفراد الأسرة الآخرين - فإنه قد تم وفقًا لدرجة القرابة ومدى قربها أو بعدها بالنسبة إلى المورّث.

ولعل من الأمور التي تنفرد بها شريعة الإسلام دون بقية الشرائع مسألة نظام المحارم في الزواج. فالإسلام لا يبيح الزواج من الأقربين إلا الذين يعدون في حكم الغرباء، وقد أثبت العلم حديثًاً أن الزواج من الغرباء فيه فائدة محققة للنسل، فضلًاً عن اتساع نطاق الأسرة حينما ترتبط بالنسب بأسرة أخرى بعيدة، وإن أروع تجميع للمحارم هو ما قد تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة النساء:

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا سورة النساء الآية 23 

إن مثل هذا التدرج في درجات المحارم لا يمكن أن يرتفع إلى مستواه ترتيب يأتي من بشر، إنها رسالة السماء وترتيب السماء، والخروج عنه حيوانية أو أقرب إلى الحيوانية، أو بعبارة أخرى وثنية أو أقرب إلى الوثنية، فإن من الوثنيين من قد تزوجوا أخواتهم، مثل تحتمس فرعون مصر الذي تزوج من أخته حتشبسوت، أو مثل بعض اليهود الذين  يتزوجون من بنات أخواتهم.

ولعل دينًا لم يقدر للوالدين حقهما ويرعى حرمتهما كما فعل الإسلام، فهو يوصى  برعاية ذمامهما حتى ولو كانا مشركين، ويفصل أفضالهما تفصيلا فيه تذكير بما قدماه  من رعاية فى عهد الطفولة والصبا، وحق لهما أن يرد إليهما الجميل، فأوصى بهما في  سورة لقمان: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴿14﴾ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴿15﴾ سورة لقمان الآية 14-15  ، وقوله تعالى في سورة الإسراء:  ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴿24﴾سورةالإسراء الآية 23-24

 الوصايا الإلهية الخالدة وغيرها من آيات القرآن وأحاديث رسول الإسلام أوصى الإسلام وألح في وصايته بمعاملة الوالدين أكرم معاملة وأمثلها.

مرونة الإسلام :

يتميز الدين الإسلامي بمرونة تحببه إلى النفس البشرية العاقلة، وإذا كانت بعض فترات من التاريخ نُسب الإسلام فيها - ظلمًا - إلى الجمود، فإن ذلك لم يكن للإسلام ذنب فيه، وإنما الذنب كان ذنب بعض المسلمين الذين جمدوا وتحجروا فالتصقتا  اtلتهمة بالإسلام دون الجامدين من المسلمين، كيف يكون الإسلام جامدًا وهو الصالح لكل زمان ومكان؟! وآية ذلك اعترافه بالعقل وتقديسه له، وهو في ذلك وحيد بين الأديان جميعًا سماويها وأرضيها، ففي الحديث الصحيح:

﴿﴿ ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يَهْدِي صاحِبَهُ إلى هدى، ويرده عن ردّى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله ﴾﴾، وفي الحديث الصحيح أيضًا: ﴿﴿ لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عَقْلُه، فبقدر عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ، أَمَا سَمِعْتُم قول الفُجَّار في النار: لو كنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السعير﴾﴾؟  وفي الحديث أيضًا: ﴿﴿ أولُ ما خَلَقَ الله العقل، فقال لَهُ أَقْبِلُ، فَأَقْبَل. ثم قال له أدبر، فأدْبَر، ثم قال له عز وجل: وعِزَّتي وجلالى ما خَلَقْتُ خَلْقًا أكرم على مِنْكَ، بك أخذ، وبك أعطى، وبك أثيب، وبك أعاقب﴾﴾.

والعقل المقصود هنا هو عقل الإنسان بطبيعة الحال، ومن هنا كان الإسلام معظمًا للعقل حافظًا له قدره، باعتباره محققًا للعدالة السماوية، منفذًا للإرادة الإلهية.

وفي الوقت الذي يحتفظ فيه الإسلام للعقل الإنسانى بمكانته السامية لا يفتأ يذكره بقوة الخالق وعظمته موجهًا إليه الخطاب في سورة إبراهيم: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ﴿32﴾ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ﴿33﴾ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ﴿34﴾سورة إبراهيم 32-34

لا تفريط ولا إفراط، الله ملكه وعظمته، وللعقل الإنساني تقديره ومكانته. 

ولم يقف الإسلام من العلم إلا موقف التقدير والإعظام، وحض المسلمين على طلبه والاغتراب في سبيل تحصيله، فالقرآن كتاب الإسلام المجيد يقول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ سورة الزمر الآية 9 

قال تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ سورة طه الآية 114

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ سورة آل عمران الآية 7

وأحاديث الرسول في طلب العلم كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، ومنها: «من سئل عن علم فكتمه ألْجَمَهُ الله يوم القيامة بلجام من نار». 

والعلم الذي يقصده القرآن والحديث هنا ليس - كما يذهب البعض - العلوم الدينية وحدها، ولكنها المعرفة بمختلف آفاقها وفنونها وميادينها، حتى إن حديثًاً ينسب إلى الرسول الكريم يحض على طلب العلم ولو في الصين، ومعروف بداهة أن علوم الدين لا تطلب في الصين، وإنما العلم المقصود هنا هو العلم بمفهومه العام، من فلسفة وطب وهندسة وكيمياء ورياضة وغيرها. والإسلام يؤمن بالعلم والعلماء، حيث كرمهم الله في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ سورة فاطر 28

إن المنصفين من المؤرخين والمثقفين الأجانب يعترفون بأن الإسلام في عصوره الذهبية كان الحفيظ الوحيد على تراث الفلسفة اليونانية، بل إن فلاسفة المسلمين قد أقبلوا على هذه الفلسفة وهضموها وزادوا عليها، من أمثال الفارابي وابن سينا في المشرق، وابن رشد وابن الطفيل في الأندلس، هذا فضلًاً عن أن الإسلام حافظ على حضارة الفرس وحكمة الهند، وانتفع بها المسلمون بعد أن ترجموها عن لغاتها الأصلية وأخذوا منها ما يتلاءم مع عقيدتهم. 

والأمر الذي لا شك فيه أن الإسلام قد مدن العرب ووسع مداركهم، بل مدن كل الشعوب التي استضاءت بنوره وانتفعت بهدايته في أنحاء الأرض، من حدود الصين شرقًا، إلى المحيط الأطلسي غربًا، إلى الأندلس شمالا. وقد كان أبناء الأوربيين يفدون على جامعاته في الأندلس ويتعلمون العربية أولا ثم يتتلمذون على العلماء المسلمين، في وقت كانت جامعات الإسلام في الأندلس وبغداد منارة العلم وراية العرفان.

والإسلام - وهو دين السماحة - يحترم العلم والعلماء، سواء كانوا مسلمين أو نصارى أو يهودًا، أو حتى من المجوس. فقد كان جيورجيس بن بختيشوع الفيلسوف الطبيب النصراني من أقرب العلماء إلى قلب المنصور العباسي، كما كان نوبخت وولده سهل الفارسيان المجوسيان من أقرب الناس إليه، وكانا منجمين، وقد أسلمت ذرية سهل فيما بعد. وقد وكل الرشيد إلى يوحنا بن ماسويه ديوان الترجمة، وظل في خدمة الخلفاء العباسيين حتى عهد المتوكل. وأما المأمون فقد ولى يوحنا البطريق أمانة ديوان الترجمة، كما قرب إليه سهل بن سابور وابنه سابور بن سهل، وكانا فيلسوفين طبيبين نصرانيين.

والأمثلة على تشجيع الإسلام للعلم واحتضان الخلفاء للعلماء من كل دين وملة كثيرة عديدة يصعب حصرها، ويقف الإسلام من العلوم المختلفة ويقف العلماء المسلمون منها موقف المحافظ عليها، الأمين على كنوزها، في الوقت الذي كان فيه البابوات في أوربا يأمرون بحرمان العلماء حينًا وحرقهم بالنار أحيانًا أخرى.

التكافل الاجتماعي في الإسلام:

ليس هناك أدنى شك في أن التساوى المطلق من الناحية المالية ممتنع بطبيعته بين الناس، إذ لا بد من فروق بين الناس تضيق حينًا وتتسع أحيانًا، وقد جرى الإسلام على تضييق هذه الهوة بقدر الإمكان، فلا يموت الفقير جوعًا ولا يهلك الغني تخمة. من أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة والضرائب على مختلف أنواع الثروات، لكي يحول دون تضخم الثروات تضخمًاً يضر بالمجتمع الإسلامي من ناحية، ويسد حاجات الفقراء والمعوزين من ناحية أخرى، فلا يبيت فقير جائعًا ولا يمشي معسر عاريًا.

والنظام الضريبي الإسلامي نظام بديع سبق كثيرًا من التشريعات الضرائبية. الحديثة، يشمل الخراج وما يخرج من باطن الأرض من المعادن، والصيد البرى والبحرى، والجمارك، وضرائب الحوانيت والمتاجر وغيرها.  

أما الزكاة فهي ركن من أهم أركان الإسلام، وهي تأتي في الترتيب بعد الصلاة مباشرة، فإذا كانت الصلاة آية إصلاح نفس المسلم ووصله بربه، فإن الزكاة آية إصلاح المجتمع الإسلامي، لأنها تقلل الفروق بين المسلمين وتقرب الطبقات بعضها من بعض. وقد تشدد أبو بكر الخليفة الأول في معاملة الممتنعين عن أدائها واعتبرهم مرتدين عن الإسلام، وأرسل في حربهم، ورد على معارضيه من المسلمين في حرب مانعي الزكاة بقولته المشهورة: ﴿﴿ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه حتى يؤدوه﴾﴾.  

وإذا كانت الضرائب تُجبى على رؤوس الأموال وحسب، فإن الزكاة تفرض على الأموال المنقولة نفسها، أي الأموال المعطلة عن العمل حتى إن هذه الأموال المعطلة إذا لم تستغل يمكن أن تستهلك زكاة في خلال أربعين عامًا، باعتبار أن الزكاة السنوية تساوي ربع العشر.  

وقد اهتم الإسلام بالفقير والشيخ العاجز والمرأة والطفل اليتيم اهتمامًا كبيرًا، فحرص على كفالتهم، فجعل الكفارة عن كثير من الخطايا بالتصدق على الفقراء، كما حتم على الأغنياء أن ينفقوا على أقاربهم من الفقراء والعاجزين، وهو تشريع مازال معمولًا به في قوانيننا للأحوال الشخصية حتى الآن، فالرجل الميسور الحال ملزم بالإنفاق على قريبه الفقير.  

والإسلام يلزم الدولة بكفالة العاجز عن الكسب والمرأة المقطوعة من الأهل، والشيخ الكبير والطفل اليتيم، ولا يقف الأمر عند كفالة الدولة للمسلم، بل إن كفالة غير المسلم واجبة، فقد رأى عمر بن الخطاب شيخًا من غير المسلمين يتسول في الطريق فأسف لحاله وقرر له نفقة من بيت المال، وقال موجهًا كلامه إلى الفقير الذمي: ﴿﴿ ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك تتسول وأنت شيخ، ولعلنا نفهم من ذلك أنه لم يكن على عهد عمر - أي على عهد انتظام الزكاة واطراد دفعها إلى بيت المال - متسول واحد، لا من المسلمين ولا من غير المسلمين، فأي مجتمع كريم كان ذلك المجتمع! ولكن السر الكبير يكمن في صلب شريعة الإسلام وروح تشريعه، فالقرآن الكريم - دستور الإسلام - حافل بالآيات الكريمة الجليلة التي تحبب إلى الإنفاق والعطف على الفقراء:

 قال تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة الآية 261

فالقرآن الكريم عمد إلى الترغيب كما عمد إلى الترهيب في صدد الإنفاق على الفقراء من ذوي القربى والغرباء، وإذا كان قد حسن التصدق فإنه قد هدد الممسكين، ومعنى ذلك أنا يلزم بها، مستوى الزكاة.

حبذا لو طبقنا مبدأ الزكاة كما كان يطبق في عصر عمر، إذن لما ربأينا فقيرًا ولا بائسًا ولا محرومًا.

الشورى في الإسلام:

ليس من شك أبدًا في أن الإسلام دين ودولة، ومهما حاول بعض المتطرفين في أفكارهم التي قد تأثرت بمذاهب تسعى إلى هدم الإسلام باعتباره الخط الدفاعي الأول ضد الاستعمار، أقول مهما حاول هؤلاء - عن قصد حينا أو غفلة حينا آخر - أن يقللوا من شأن الإسلام في بناء الدولة، فإن ذلك لا يغير من طبيعة الأمر الواقع شيئًا، فالذي لا شك فيه أن أسمى وسيلة لحكم الرعية كان الإسلام أول محتضن لها ومبشرًا بها، ونعني بها الشورى، ولعل الإسلام هو الدين الوحيد الذي دعا إلى الشورى في الحكم، وهو بها يفرض نفسه - في جدارة وعدل - على نظام الدولة وطريقة الحكم فيها، جاء ذلك في كتاب الله في أكثر من موضع في قوله تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ سورة الشورى الآية 38

قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ سورة آل عمران الآية 159

فهذه الديمقراطيات المعاصرة جميعًا، والتي تتغنى الشعوب بها وتمجدها وتحارب في سبيلها، قد سبقها الإسلام قبل اليوم بأربعة عشر قرنًاً من الزمان، ولذلك فإن نظام الحكم في الإسلام يقوم على البيعة، وإن الخلافة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت نتيجة لبيعة حرة.

والخليفة برغم أنه بحكم مركزه يعتبر الحاكم الأعلى للمسلمين، فإنه لا يظلم ولا يستبد، ولكن. عليه أن يستشير عقلاء الأمة وفقهاءها وينزل على حكمهم، ثم هو بعد ذلك يعتبر نفسه خادمًاً للناس لا سيدًاً على الناس، فهذا أبو بكر الصديق الخليفة الأول يقول فور مبايعته موجهًا ً خطابه إلى المسلمين: ﴿أيها الناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وفي مقام آخر يقول: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني". 

هذا كلام جميل وتشريع جليل، ومنتهى ما يصبو إليه الإنسان في توخي الديمقراطية في الحاكم العادل الذي يدعو الناس إلى اتباعه ما كان الحق رائده، فإن انحرف طلب إليهم أن ينصرفوا عنه. 

ولم يكن أبو بكر وحده صاحب مثل هذا القول، فكذلك كان عمر الخليفة الثاني، نعم كان عمر كذلك، لأن شريعة الإسلام تقتضي ذلك، فما كاد يلي أمر المسلمين بعد أبي بكر حتى خطب الناس قائلًاً: ﴿أيها الناس إن رأيتم في اعوجاجًاً فقوموني﴾، فنهض رجل من عامة المسلمين قائلًاً له: ﴿والله لو رأينا فيك اعوجاجًاً لقومناك بسيوفنا﴾، فلا يغضب عمر، ولا يرى في هذا القول الجاف ما يخدشه أو يجرحه كخليفة للمسلمين، بل يتقبل القول راضيًاً قرير العين قائلًاً: ﴿الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم أمير المؤمنين بسيفه﴾.

ولما كانت الشورى تقتضي أن يختار المسلمون حكامهم، فقد أصبح الخليفة يحكم طول حياته، مع حق المسلمين في عزله أو خلعه، فإذا مات تجمع المسلمون لانتخاب غيره، وظل الأمر كذلك في الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، حتى جاء معاوية بن أبي سفيان وخرج على نظام الشورى في الإسلام، وجعل الأمر وراثيًاً في أبنائه من بعده. 

هكذا كان الإسلام دين الشورى، وكان الخلفاء يستعينون بالعقلاء في حل ما يستعصي من الأمور، وكان الخليفة إذا أخطأ يعترف بخطئه ويتبع الصواب ، وليس هناك أدل على ذلك من قولة عمر المشهورة : « أخطأ«أخطأ عمر وأصابت امرأة »امرأة».

المساواة في الإسلام:

لعل من أسمى مبادئ الإسلام تلك المساواة التي قد اشترعها للناس جميعًا، لعل من أسمى مبادئ الإسلام تلك المساواة التي اشترعها للناس جميعًا، فالكل سواء، لا فرق بين أبيض أو أسود ، ولا أصفر أو أحمر ، ولا غني ولا فقير ، ولا ملك ولا حقير، وإنما أفضل الناس أقربهم إلى التقوى وأفعلهم للخير، ويسجل القرآن الكريم هذا الدستور العظيم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ سورة الحجرات الآية 13

 وفي قوله تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿123﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرًا﴾ سورة النساء، الآية 123-124

ويؤكد الرسول الكريم هذه المساواة المطلقة بين الناس جميعًا من كل لون وجنس في قوله الشريف : « الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ». فالإسلام ممثلًا في شريعته السمحة يؤكد احترام الناس وضمان حريتهم وتقديس إنسانيتهم بوقوفهم أمام القانون سواء، لا يفضل أحدهم الآخر إلا باحترامه للقانون وإقدامه على فعل الخير وبعده عن الشر والإثم.

ويؤكد هذه المساواة أنه لا شفاعة للمجرم، وأن لاوألا تغاض عن إثم، وقد أراد أسامة ابن زيد، وقد تربى في بيت الرسول، وكان قريبًا إلى قلبه، أن يشفع لفاطمة بنت الأسود المخزومية، وكانت قد ضبطت متلبسة بجريمة السرقة، فغضب النبي وأنكر الشفاعة، ووجه الحديث إلى أسامة في غضب: ﴿ أتشفع﴿أتشفع في حد من حدود الله؟ ﴾، ثم قام النبي بعد ذلك فخطب الناس قائلًا: ﴿ إنما﴿إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا 

سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)، وليس من شك فى أن المساواة أساس العدالة في المجتمع.  

وأبو بكر الصديق يؤكد هذا المعنى، أى معنى المساواة، في أول خطبة خطبها وقد ولى أمر المسلمين، لأنه يعلم أنه حيث تفتقد المساواة تفتقد العدالة، وحيث تفتقد العدالة ينهار المجتمع. يقول أبو بكر: ﴿أيها الناس: إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندى من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندى من القوى حتى أخذ الحق منه﴾ .

وتطبيقًا لهذه القاعدة العظمى ما حدث لجبلة بن الأيهم الملك الغساني، وقد دخل الإسلام وجاء إلى مكة فى خمسمائة فارس من قومه وقد لبسوا ثياب الوشى المنسوجة من الذهب والفضة، وفى أثناء الطواف بالبيت العتيق داس رجل من فزارة على إزار جبلة فحله، فالتفت إليه جبلة مغضبًا فلطمه فهشم أنفه، فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب شاكيًا، فبعث عمر إلى جبلة وسأله عن سر اعتدائه على الفزاري، فأجاب جبلة قائلًاً: إنه وطئ إزارى فحله، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه، فقال عمر: أما أنت فقد أقررت، إما أن ترضيه وإلا أقدته منك. قال جبلة: أتقيده منى وأنا ملك وهو سوقة؟! قال عمر: يا جبلة إنه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضله بشيء إلا بالعافية. قال جبلة: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز منى في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا. قال جبلة: إذن أتنصر، قال عمر: إن تنصرت ضربت عنقك. قال جبلة: أخرنى إلى غد يا أمير المؤمنين، فأجابه عمر إلى طلبه، فلما كان الليل هرب هو وفرسانه وظلوا يضربون في الأرض حتى دخلوا القسطنطينية فتنصروا، وعاشوا فى حماية هرقل، وبعد مدة من الزمان حن جبلة إلى الإسلام الذي سوى بين الناس وندم على فعلته وبكى قائلا:  

تنصرت الأملاك من خَوْفِ لطمة  *  وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

وهكذا تسوى العدالة الاجتماعية فى الحق بين الملك والصعلوك، وتصر على إنصاف المظلوم مهما صغر شأنه من المعتدى ولو كان ملكًا.

هذه العدالة المطلقة والمساواة المطلقة مبدأ من مبادىء الإسلام المقدسة، فأين منها مبادئ الأخلاق في الفسلفة اليونانية عند أرسطو الذى يطلقون عليه اسم المعلم الأول؟!  

إن أرسطو في الكتاب الخامس من الأخلاق يضع مبدأ التفريق الاجتماعي بصراحة وعنده ما يسمى بالعدالة التوزيعية، وهي التي ترشد الدولة في توزيع الرتب والألقاب والأموال، وهى عدالة تعتمد على مبدأ التفريق بين الناس، وتنمى التمييز بين طبقات المجتمع، وظل هذا التمييز الطبقى قائمًا يفرق بين الناس باسم علم الأخلاق لفترة طويلة من الزمن.  

وثمة عنصر هام في المساواة فى الإسلام لا ينبغى أن نمر عليه مر السحاب، بل ينبغي أن نقف عنده طويلًاً، لأنه ينم عن أصالة فى مبدأ المساواة في الإسلام والعدالة الشاملة التي لا يأتيها الظلم من بين يديها ولا من خلفها، ذلك العنصر الهام هو عنصر المساواة بين المسلمين وغير المسلمين مساواة تامة، والعيش معهم في سلام ووئام، والحفاظ على جوارهم، والمحافظة على أموالهم وأعراضهم وحرماتهم ومقدساتهم، ينتظم هذا المبدأ قوله تعالى: 

﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ سورة الممتحنة الآية 8

وليس التشريع في ذلك آية مكتوبة في كتاب الله وحسب، بل إن ذلك نزل إلى ميدان التطبيق العملي، فقصة ابن عمرو بن العاص مع المصري القبطي معروفة حين اعتدى ولد لعمرو بن العاص إبان حكمه مصر على أحد المصريين، فهدده القبطي بشكايته لأمير المؤمنين، فلم يأبه ابن عمرو لذلك وقال: أنا ابن الأكرمين، فلما كان موسم الحج - وقد ذهب عمرو وابنه إلى مكة - كان القبطي في إثرهما، ودخل إلى الخليفة وعنده عمرو وولده، فشكا إليه ما قد وقع عليه، وأعاد على سمع أمير المؤمنين كلمة ابن الأكرمين، فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديدًا، ونظر إلى عمرو قائلًاً جملته الخالدة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» ثم ناول الشاكي سوطًا وقال له: اضرب ابن الأكرمين كما ضربك.  

ولقد مر بنا أن مساواة غير المسلمين بالمسلمين كانت مطلقة حتى في الصدقات حينما وجد عمر ذميًّا مسنًاً يسأل الناس ويتسول فى الطريق ، فظهر عليه الأسف وأمر بمرتب دائم من بيت المال وقال : ﴿﴿ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك تتسول وأنت شيخ﴾﴾.

أين من هذه المساواة المطلقة الأصيلة ، المساواة بين المواطنين في الوطن الواحد في الدول التي تتغنى بالتقدم والمدنية والديمقراطية الحديثة؟

إن جرائم التفرقة العنصرية فى كثير من الدول الكبرى فى عصرنا لما يندى له جبين الإنسانية خجلًاً واستحياء ، ففىففي جنوب إفريقيا نجد البيض الوافدين يمتهنون الملونين - سكان البلاد الأصليين - ويحرمونهم من حقوقهم المشروعة في الحياة ، ولا يسمحون لهم بالتردد على مطاعمهم أو مقاهيهم أو السكن فى أحيائهم ، بل ويحرمونهم من حقوقهم الدستورية كمواطنين أصليين في البلاد.

وفي أستراليا ونيوزيلندا يعمد الإنجليز إلى إبادة السكان الأصليين للقارة ، لأنهم ليسوا من البيض ، وقد ظلوا يستعملون سلاح الإبادة والتقتيل بالجملة حتى كاد الجنس الأسترالي يفنى.

وفي إنجلترا قامت حركة اعتداء منظمة على أرواح السود ، ففى كل يوم كان جهاز الشرطة يعثر على قتيل أو أكثر ملقى فى الطرقات ، وكثيرًا ما قامت المظاهرات تطالب بالموت للسود تحت سمع ﴿﴿ صاحبة﴿﴿صاحبة الجلالة الملكة الديمقراطية﴾﴾ وتحت سمع حكومتها ﴿﴿العريقة﴾﴾ فى الاعتداء على الشعوب .الشعوب.

فإذا ما انتقلنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وجدنا أشنع جريمة في حق الإنسانية تُرتكب علنا في البلاد التي تضم مبنى هيئة الأمم المتحدة التي تتغنى بما يسمى ميثاق حقوق الإنسان .

إن الأمريكيين فى الولايات المتحدة قد أفنوا السكان الأصليين للبلاد المعروفين باسم الهنود الحمر إفناء كاملًاً ، ثم التفتوا إلى المواطنين الملونين أو السود وأهدروا مظاهر إنسانيتهم إهدارًا كاملًاً ، فالأسود لا يتعلم في مدارس البيض ، ولا يتردد على منتديات البيض ، وإذا ركب السيارات العامة فإنه يجلس خلف البيض ، وإن ازدحمت السيارة فرض عليه الوقوف لكى يجلس مكانه الرجل الأبيض ، وينص دستور بعض الولايات الأمريكية على قتل الرجل الملون أو حرقه أو تمزيق جسمه إذا اتصل بامرأة بيضاء ، ولو كان ذلك بموافقتها ، أما الرجل الأبيض فله أن يغتصب الملونة متى شاء وأنى أراد بدون عقاب أو محاكمة ، وإن حوكم فمحاكمة صورية.

بل هناك ما هو أبشع من ذلك ، فالرجل الملون لا يسمح له حتى بالاحتجاج السلمى ، فقد حدث منذ سنوات قليلة أن كانت امرأة ملونة مسنة تجلس في سيارة عامة ﴿ أتوبيس) » ، ثم صعد رجل أبيض وطلب إليها أن تترك له مكانها ، فامتنعت السيدة عن ترك مكانها لرجل أقدر منها على الوقوف وهى المرأة العجوز المسنة في عمر أمه ، فاستعان الرجل الأبيض بالشرطة التي ألقت القبض على السيدة المسكينة وقدمتها للمحاكمة ، التي قضت بإدانتها وتغريمها ، وهنا ثارت نفوس الملونين لهذا الظلم والامتهان ، فقرروا مقاطعة السيارات العامة، وصاروا يذهبون إلى أعمالهم ويعودون منها سيرًا على الأقدام ، ولكن الحكومة ﴿الديمقراطية العادلة﴾ لم تسمح لهم حتى بهذا الاحتجاج الخفيف ، وقبضت على مائة منهم وقدمتهم جميعًا للمحاكمة بتهمة مقاطعة وسائل المواصلات ، وقضت بإدانتهم جميعًا.

والصحف الأمريكية تطفح كل يوم بحوادث امتهان الإنسان غير الأبيض وتحقيره والاعتداء عليه وحرمانه من حقوقه المشروعة فى الحياة لا لشيء إلا لأنه قد خُلق غير أبيض.

أين هذه الديمقراطية الزائفة إذن من عدالة الإسلام الصحيحة السليمة الأصيلة التي تحفظ لكل إنسان حقه، ولا تفرق بين الناس إلا بالعمل الصالح ؟ فقد كان بلال ﴿ الأسود﴿الأسود خيرًا من كثير من سادة العرب حقًا . إن الإسلام دين المساواة الحقة والعدالة المطلقة ، ولو علم زنوج أمريكا أو الملونون في جنوب إفريقيا بهذا الإسلام لسارعوا إلى اعتناقه ؛اعتناقه؛ لأنه سيرد عليهم - على الأقل - إنسانيتهم ويشعرهم بحقهم في الحياة كمجموعة من مجموعات الأجناس الإنسانية .

يمكنك قرأة المزيد من هنا

و يمكنك متابعتنا من هنا