أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين-5
بقلم: د. عماد رشاد عثمان
مرحلة التجاوز
"النمو الحقيقي يحدث هكذا ببطء وثبات وهدوء.. بلا ضجيج ودون إعلان عن نفسه.. وربما دون نلحظه".
القديس فرانسيس
مرحلة التجاوز هي إكليل التعافي ومحطته الإلزامية الأخيرة، وهي ليست محطة وصول في الحقيقة، وإنما هي محطة انطلاق نحو رحلة جديدة، رحلة الذات الحرة بعد وضع إطار جديد لقصتنا وغلق لملفها، يسمى (إعادة تأطير الإساءة).
إعادة تأطير الإساءة
- فهم المؤذي يساعدنا في التعافي.
قد كنا دوما نخشى الصفح، وكنا نقاوم كل محاولة يقوم بها من يحاول مساعدتنا ليجعلنا نفهم سلوك المؤذي، وربما نقاوم محاولات التفسير لئلا يجعلنا ذلك نسامحه!!
كنا نرى الغفران للمؤذي (أو المؤذية) الذي أساء إلينا يعني إساءة منا لأنفسنا. فذلك المؤذي الذي التهم طفلًا هشًا ضعيفًا (كالذي كنا) فمنحنا جراحنا الأعمق وألهب جسدنا بالهرب وقام بتشويه حياتنا ليجعلها بأسرها نوعًا من الفرار ومحاولة التسكين؛ كنا نرى الغفران له خطيئة.
وتلك كانت مرحلة طبيعية من التعافي، نمر بها جميعًا.
فقط كان المؤذي مريضًا، تقاطعت دوائر مصائرنا. وكانت الإساءة عرضًا من أعراض مرضه، سقطنا به ذات حظٍ عثر!
هل نحاول بذلك أن نبرءه أو نسقط عنه اللوم والمسؤولية؟!
لا، مطلقًا. إنما نبرئ أنفسنا!
وهل نقصد الصفح عن المؤذي. لا، ليس بالضرورة، فالصفح عن المؤذي قرار اختياري لا علاقة مباشرة له بالتعافي.
إنما نتحدث عن الصفح عنا نحن أولًا!؛ الغفران لأنفسنا!، ففي قرارة أنفسنا كنا نرى خللًا ما بنا. وكأننا كنا طرفًا؛ محفزًا، أو مستفزًا، أو مشاركًا مسببًا!
- ما فعل بنا أحيانًا يكون عن عجز لا عن بخل: بمعنى أننا نعم قد حُرمنا من الحب والتقدير والدفء، ولكن هل كان هذا الحرمان عن بخل؟ بمعنى هل كان من حرمنا قادرًا أصلًا على أن يمنحنا أم أنه كان مُعاقًا عن الحب، شوهته الحياة بشكل جعله غير قادر على منح المحبة الصحية؟
ألم تكن تلك هي لغته الوحيدة التي يعرفها ولم يكن يدرك وجود لغة سواها؟ ألم يكن فقط عاجزًا عن المنح لا بخيلًا به؟
إن اعتقادنا الجازم عن عجز الأب الجافي أو الأم المتسلطة لا عن بخلهم يخفف قليلًا استغراقنا في اللوم، نبدأ في رؤيتهم كمساكين أيضًا قد حرموا أنفسهم قبل أن يحرموننا، أو ربما قد حرمهم مؤذ قديم من القدرة على العطاء.
لم يكن الأمر متعلقًا بنا إنما متعلق بتكوينهم المعطوب، بحالة من العجز الكامل عن الحب الصحي أصابتهم.
- ربما كان من آذانا هو حلقة وسيطة في سلسلة من الإيذاء المتوالي، أي أنه كان يومًا ما ضحية أخرى لمؤذ لم نلحظهأو لم نتجرع إيذاءه المباشر.
أتذكر مشهدًا استثنائيًّا في فيلم فريد اسمه (الكوخ) the shack، يشاهد فيه الابن (الناجي من إيذاء أبيه الكحولي) مشهدًا مصورًا لطفل يؤذيه والده بقسوة ويعامله بعنف، فيتعاطف معه ويجده مظلومًا ومجنيًّا عليه، ثم يكتشف أن هذا المشهد هو لوالده الكحولي المؤذي حينما كان طفلًا!
- المؤذي لم يتوفر له ما توفر لنا من فرص التعافي: دعنا نكون أمناء مع أنفسنا ونصارح ذواتنا أننا رغم كل ما مررنا به من ألم وأذى ولكننا سعداء الحظ من زاوية أخرى، فلم نزل في عصر قد توفرت فيه نسبيًّا سُبل التشافي.. من كتب ومناهج وبرامج للتعافي، ومن ترحيب نسبي متزايد بالعلاج النفسي والعلاج وأصوله ولغته ومبادئه، ومن مساحات التواصل الاجتماعي التي – على الرغم من كل ما فيها من آثار جانبية – إلا أنها تسمح بتحرير الصدمات والتواصل بين الناجين وإلهام المزيد من الذين يشعرون أنهم وحيدون.
ولكن تلك المساحات لم تكن متوفرة لوالدينا، لم يكن متاحًا لهم أن يتحدثوا عن آلامهم وعما تعرضوا لئلا يتحولوا إلى نسخًا مكررة منه، لم يكن متاحًا الحصول على دعم نفسي، ولم يكن هناك كتاب يحدثهم عن حقوقهم، بل كان كل شيء يحدثهم عن ذنوبهم في التقصير في جانب بر الوالدين ويحثهم ليل نهار على تعرية ظهورهم لمزيد من الجلد الأبوي باسم البر!
الأمر ليس منوطًا بالأماني فقط، ولا تكفي وعودنا لأنفسنا بأننا سنحسن معاملة أولادنا، فلغة الإيذاء تورث للأسف، وتصبح لها اليد العليا فوق إرادتنا، نصبح وكأننا مجبرون على تكرار المأساة ما لم نحصل على التعافي مرورًا بالوعي وانتهاءً بالحرية.
- رغم حمق ما فعلوه أحيانًا ورغم الألم، إلا أن أحيانًا أقسى الأفعال تحدث بدوافع طيبة، وبنوايا حسنة.
نعم، نحن لا نقول هذا أيضًا لكي نبرر لهم أو نرفع عنهم المسؤولية أو ندعوك لتمييع حدودك معهم أو احتمال المزيد من الأذى، إنما فقط نتحدث عن الفصل بين الفعل ومنطلقاته، بين الأذى وبين دوافعه، فأحيانًا لا تكون الدوافع شرًّا محضًا.
تلقائية التعافي
لنتذكر دومًا أن الشقاء عملية تلقائية تحدث من تلقاء نفسها، ومحاولة التحكم فيها يعطلها!
دعها تحدث كيفما أرادت ووقتما شاءت، وتأخذ ما تشاء من الوقت، وتتخذ الشكل النهائي الأنسب لتجربتك، لا تستعجلها ولا تستحلها ولا توجها.
فقط اكتف بعمل دورك الشجاع الجسور في الغوص وإعادة فتح الملف.
وشاهد معجزة الشفاء تحدث.
أن تراقب النمو ولا تستعجله، وتشاهد معجزة الشفاء تحدث بك وفيك وحولك دون أن تصرح بها أن تسرع من مراحلها!
الاضطرابات هي التي تنشأ من التدخلات في المسارات الطبيعية للأشياء، وتنشأ من محاولات الإدارة للنفوس والتحكم في الأمور والنتائج، وتنشأ من التشبث والعنف واللوم وابتغاء تعديل التوجه. تنشأ من قبولٍ مشروطٍ، وحبَ متعلقٍ بالأداء.
فلن يكون التعافي سوى مقلوب تلك الظروف؛ بالقبول اللامشروط؛ والمحبة المطلقة للذات والكائنات، وترك الإدارة والتحكمية، وإفلات الدفة، والمراقبة بفضول الطفل داخلك لمعجزة الالتئام، بحالة من الرفق واللين والانسياب، وترك الأمور لتحدث كما يمكنها أن تحدث!!
التحكمية.. منبت أوجاعنا!
"توقّف عن التهام نفسك، ستمضي الأمور إلى حيثُ من المفترض لها أن تمضي".
هاروكي موراكامي
من السمات العميقة التي تشكل ملامحنا ولها أعظم الأثر في وجود أمراضنا جميعًا والتي تشكلت بفعل الإساءات... (التحكمية)..
نحن نسعى دومًا للتحكم في مسارات الأمور؛ أن يحدث كل شيء كما نريد وفي الوقت الذي نريد. وأن يكون كل شخص كما نريد، ويعاملنا بالشكل الذي نريد، ويفهمنا بالقدر الذي نريد، بل يكون في ذاته ويسير في حياته هو بالنمط الذي نريد نحن!
كيف تكونت نزعة التحكمية فينا؟
إن إساءات الطفولة تورثنا شعورًا (بالعجز المكتسب)، Learned Helplessness فكل شيء كان يحدث رغمًا عنا، ولا وجود لمهرب ولا مفر، هو فقط الجبر والقهر وفقدان الإرادة.
إنما المصابون بالتحكمية فقط ببساطة ممتلئون بالتوقعات والمعايير لما ينبغي أن تكون عليه الأشياء والأشخاص!
وفي المحاولة لأن يوافق الواقع تصورهم يبذلون كل شيء... حتى الانبطاح نفسه!
فالزوجة التي ترضخ لنزوات زوجها هي تحاول التحكم في بقائه وتحديد تصوره عنها. (هي مصابة بداء التحكمية حتى في إذعانها لسطوته).
الاجترار النفسي نوع من التحكمية، حين نعيد المشهد الذي حدث فعليًّا مئات المرات في أذهاننا سائرين في نهايات مختلفة عما حدث في محاولة عابثة للتحكم في الماضي!
نوبات الشرود من التحكمية.. فهي محاولة لفرض السيطرة ولو ذهنيًّا فقط على مواقف تخرج عن إطار تحكمنا فنوازنها بتحكمنا في مساراتها داخل عقولنا!
فالسيكوباتي المؤذي.. يتفق مع الانبطاحية الإرضائية.. ويتفقان مع مدمن سكير.. ويتفقوا جميعًا مع مهووس بالعمل.. مرورًا بمصاب بالقلق يقضم أظفاره ليلًا ونهارًا.. عابرين بمنكب على شاشة حاسبه يشاهد الإباحيات.. وفتاة تقصي الآخرين عن حياتها وتضع السدود والحواجز.. ومصاب بالوسواس يغسل يديه عشرة مرات في كل ساعة.. ومقامر يلقي الرهانات.. ومتسوقة محتلة بالرغبة في التجميع والاقتناء.. ومتسللة بالليل إلى الثلاجة تنهمر في نوبة شره للطعام!
كلها فقط محاولة موازنة أمام عجز دفين طلبًا للتحكم.. واستعادة واهمة للسيطرة
التحكمية هي محاولة تغيير ما لا يسعك تغييره، محاولة الوقوف العابثة أمام قواعد ستدهسك إن حاولت ثنيها، محاولة صبيانية لتغيير السنن، وفرض تصورك على الأمور والناس.
طقوس التخلي
منذ زمن ليس ببعيد، كانت الأفعال السيئة هي التي تتطلب تبريرًا، أما اليوم، فالأفعال الجيدة هي التي تتطلب ذلك. يا لبؤس هذا العالم...!
آلبير كامو
طقوس التخلي أو شعائر التجاوز هي فعلّ رمزي نفعله يومًا بتحضير وتجهيز ليكون بمثابة صناعة نصبًا تذكاريًا لما حدث وصرحًا للذكرى كنوع من رمزية الأسى والتجاوز، نوعًا من العرفان للذات والاعتراف بالألم ممزوجًا يمنح الإشارة للذات بالمضي قدمًا.
أمثلة لطقوس التخلي التي قرر أن يفعلها بعض الناجين:
"قررت أن أقوم بتسجيل ريكورد طويل لأبي أقول فيه كل ما لم أستطع قوله له يومًا، وأذكر ما حدث، ثم احتفظ به عندي ولا أرسله له، ولكني مع الوقت جعلت صديقتي تسمعه معي. كان الأمر صعبًا في البداية ومفعمًا بالانفعال، ولكن بمرور الوقت شعرت وكأن حجرًا ضخمًا قد سقط من صدري وأحسست بالخفة".
ممارسة الامتنان
ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة، إن الانحياز الفني الحقيقي هو: كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة..
غسان كنفاني
تمرين (بسيط) للتخفيف من الألم في بدايات التعافي:
هناك أمر غاية بالأهمية والبساطة معًا، وقد كان يُفلح دومًا في بث السكينة والطمأنينة والبهجة في حياتي، ويُعد من الطرق السهلة لمقاومة الاكتئاب والاحتراق بالبؤس وبالأخص في بداية طريق التعافي... وهو تمرين الامتنان!
قد أعتدتُ أن تتناسب راحتي وسكوني الداخلي مع ممارستي لهذا الأمر، وأجد الفترات الأكثر إرهاقًا وألمًا هي الفترات التي غفلت فيها عنه أو تلاهيت بالحياة عن استقطاع الوقت لفعله!
تمرين بسيط وصغير وفعال للغاية، وللأسف خاب عن استسخفه أو استصغره أو غفل عنه..
أن تكتب كل يوم ثلاثة أشياء - على الأقل – تكون ممتنًا لها في يومك!
لا تستصغر شيئًا.. ربما تمتن لشخص ما، وربما تمتن لنفسك، وربما تمتن لجماد كسيارتك أو هاتفك، وربما تمتن لله!
الامتنان (باللغة النفسانية) يماثل في اللغة الدينية مفهوم الحمد، وهو شعور قلبي وحالة داخلية، أما الشكر فهو الترجمة الفعلية لهذا الشعور.
لذا علمونا أن الشكر إظهار وفعل للجوارح، والامتنان (الحمد) حالة باطنية وعمل للقلب..
وربما هناك شكر زائف بلا امتنان حقيقي.. أما الامتنان فلا يمكن أن يكون زائفًا سواء تمت ترجمته للشكر أو لا..
مقاومتنا للبؤس تنبع من هنا.. والطريق للتعافي يتجدد من تلك المنصة.. ومعرفتنا لله لن تقوم إلا على امتنان.
وليس بالضرورة أن يكون امتنانك لله، فمن لم يزل يعاني من إشكالات في العلاقة بالله، فلا يقسو على ذاته ويجبرها على الدخول بعلاقة مع الله عنوة.
فليقبل مرحلته من النمو.. ويؤجل التواصل مع الله قليلًا..
وربما يلتفت إلى نفسه فيمتن لذاته على أفعاله وصفاته الحقيقية، يمتن لثقته وتعاطفه، يمتن لأفعال المحبة والإيثار منه.
وربما يلتفت للكون نفسه فيمتن لشيء جميل حدث خارج عن إطار إرادته وتحكمه وربما يلتفت للطبيعة فيمتن لمشهد جميل..
مع الوقت سيعرف نفسه وعالمه أكثر.. وسيحدث نوع من التواصل بينه وبين الكون من حوله.
سيشعر بنوع من التجذر، من الألفة، من الانتماء للحياة.. وحينها سيصبح التواصل مع نفسه أقرب.. وربما بعدها يمكنه حينها أن يبدأ في التواصل مع الله..
ونحن ننصح دومًا بألا تكتفي باستحضار الأمر ذهنيًّا، إنما لا بد من الكتابة!
وإياك أن يمر عليك يوم تراه أكثر ازدحامًا من استقطاع بضع دقائق للامتنان أو تراه أكثر بؤسًا من أن يحمل شيئا موازيًا من الجمال.
حارب الوحدة والغربة والكآبة والقلق بالامتنان.. واصبر قليلًا وستجد لهذا الدواء أثرًا عجائبيًّا..
وإن كنت ممن مارس الامتنان يومًا ثم انقطع عنه.. فغد إليه اليوم.. ستجد امتنانك ينمو بنموك.. وتعافيك يؤثر بمستقبلات الامتنان فيك..
وتذكر أن بداية الصلاة بكل الأديان نوعً من امتنان.
ومنطلق التعافي ومنصة التحليق بسموات التحرر من كل ما يرهقك؛ ربما هي تلك المساحة البسيطة للغاية (دقائق الامتنان اليومي).
قد بدأ الشفاء
أن تكون أنت أنت.. يا لها من مهمة شاقة!
بول فاليري
إن ما قد آذانا كان علاقة؛ وربما هي كانت أكثر موضع بحثنا فيه عن الأمان والراحة والرعاية، فكانت في الحقيقة أكثر موضع وجدنا فيه الخوف والرفض والألم، وبينما يتراكم الخذلان، فقد أصبحت هناك فجوة ضخمة بين توقعاتنا (ما ينبغي أن يكون) وبين ما يُمارس تجاهنا (من هو كائن فعليًّا)!
وربما لم نجد رمزًا أبويًّا نتطابق معه، ولا قالبًا نصب فيه هويتنا الصلصالية الرقيقة التي لم تتشكل بعد، لذا لم نجد إطارًا لنكون من خلاله ذاتًا واضحة المعالم، فتجمدنا هناك في تلك المرحلة الصلصالية من النمو.
قد كان ينبغي عليهما (الأب والأم أو علاقاتنا الأولى) أن يساهما في صياغة الإطار المُحدد لذواتنا والقالب الذي يمنح نفوسنا شكلًا وهيئة لنتمكن بعدها من أن نجري عليها تعديلات تناسبنا لنتعرف على أنفسنا ونشكل هوياتنا. تلك هي رحلة (بناء الذات)؛ إطار أبوي عام يتشكل في تربة المحبة ثم يُضاف إليه تعديلات وإضافات وتنقيحات من تجاربنا.
في نفس الأثناء التي كنا فيها فقط نقاتل الجاذبية، لننتصب قائمين كذواتٍ مرئية في هذا العالم، ولم تزل طراوتنا لم تجف، ونصارع لنحصل فقط على هيئة طبيعية فوق كل تلك الشروح والتصدعات التي تجعل منا (مجرد بناءات نفسية آيلة للسقوط).
ثم فجأة يتغير كل شيء، وتنفتح بوابة من التعافي لم نكن ندري عنها شيئًا.
(علاقة شافية)
علاقة أخرى ترمم كل شيء.
نعم، لم يكن الأمر أسطورة كما ظننا دومًا انطلاقًا من قسوة تجاربنا، ليتضح أنه لم يكن وهمًا في النهاية. نعم، ربما ملتهبي الدواخل بشكل أبعدنا بخوف عن العلاقات وأصابتنا رهبة من الحميمية، وربما قد لاقينا المزيد من الألم في المزيد من العلاقات الأخرى التي اتضح أنها فقط ثلة من الاختيارات الخاطئة، لأننا بشكل ما أصبحنا نحمل مغناطيسًا للأوغاد والحمقى، فلا نسقط إلا فيمن يؤذينا ويخذلنا.
العلاقة الشافية: تلك المساحة الدافئة بين شخصين، المسافة بين كيان إنساني وآخر، التواصل الحقيقي بينهما، الكيمياء اللامفهومة، تلك المساحة هي الوحدة الأصيلة للوجود الإنساني، والبنية الرئيسية التي تشكل أنسجته وتمنحه الوسط الملائم لصياغة ذاته، فالذات (الأنا) لا يمكن تشكيلها وإعادة اكتشافها وإدارتها إلا من خلال تحليل تلك المساحة (العلائقية)، وكل ما يحدث (في الداخل) لا يمكن قراءته سوى هناك في تلك المسافة؛ المسافة التي يتم تشفير كل شيء داخلنا فيها، ليخرج رمزيًّا مسطرًا بأحبارٍ سلوكية سرية لا تكشفها سوى عينٍ حاذقة ووعي مجاوزٍ للمظاهر.
إن كل علاقة يحدث فيها نوع من القرب والألفة والدفء، هي عرضة لأن نخبئ فيها أكواد دواخلنا بشكل رمزيٍ، وأحيانًا بشكل شائكٍ شديد الخطورة.
وهناك فقط يمكن للشفاء أن يحدث حين تنحل أواد اضطراباتنا داخل إطار علاقة.
كان دواؤنا في حقيقته: علاقة؛ علاقة تصحيحية ترمم قدرتنا على التواصل والثقة، وترمم الوحشة والوحدة، وتمنحنا شعورًا جديدًا بالألفة، علاقة تمثل برعمًا من التواصل الحقيقي مع كيانٍ إنساني آخر قد فتح ذاك البرعم في بستان نفوسنا المتصحر بالأسى.
أوليس العلاج النفسي في حقيقته هو علاقة شافية وتجربة تصحيحية، يقول النفساني العبقري إرفين يالوم "الشفاء في العلاج النفسي يحدث في حقيقته عبر العلاقة العلاجية لا مجرد المحتوى المنطوق".
وهناك في تلك المساحة الشافية، لم نعد نرى أنفسنا (لا نكفي)، وأصبحنا نتمكن من لملمة أنفسنا واحتمال مشاعرنا وإدارتها.
قد غاب الشعور المضني القديم بالخواء!
وبدأت حياتنا تحمل المعنى، وأخذت تصير لذواتنا بأعيننا قيمةً.
نبدأ في رؤية أنفسنا بعين الاستحقاق، ولا نعود نرى الكون مكانًا معاديًا، ولا نعود نرى الآخرين محض حمقى أو أوغاد.
نصبح للمرة الأولى آمنين داخل جلودنا، وتتشكل لنا هيئةُ وهويةُ وهدفُ!
تلك المحبة اللامشروطة تشفي.
والأمر غير متعلق بحب رجل لامرأة والعكس.. ولا نقصد به بالضرورة العلاقات العاطفية، بل إن التركيز على انتظار علاقة عاطفية وحبيب منقذ كتجربة تصحيحية وحيدة هي من أوهام الناجين، ومن الأمور التي تسقطهم في العادة في قهر التكرار والانجراف بتوقعاتهم في بئر علاقة مؤذية وخيبة أعظم.
حقًّا إن للمحبة غير المشروطة قدرة شفائية، والحقيقة أنني لم أكن أؤمن بذلك حتى عهد قريب.
كنت أرى الحب قد يصنع زواجًا، أو بيتًا، وربما يصنع صداقة تدوم قليلًا!
وربما يصنع قتلًا، أو غصبًا كأثرٍ جانبيٍ لشعورٍ لا يخضع تمامًا للمنطق والقواعد حتى الأخلاقية منها. ولكنه لا يغير النفوس، ولا يمكنه أن يصنع معنى حقيقيًّا للحياة.
حتى عرفت المحبة (وهي لفظة أكثر شمولية وحيادية من الحب)، المحبة التي يعتقد البعض أن بها قامت السماوات والأرض، وبها منحتنا الحياة نفسها وأنفاسها. وبها صدر عن الواحد كثرة. أحب الله الكون فكان. المحبة مساحة غير متَجنسَة. والأهم أنها غير مشروطة، فالفوارق بين المحبة وبين ما سواها من أشكال الهوى والغرام والحب، أنها بلا شروط، وأنها بلا غرض، وأنها بلا انتظار لمقابل وبلا ابتغاء أحيانًا لمقابلتها بمثيلها.
وهي ليست سهلة كما تبدو، فالكتابة عنها أيسر كثيرًا من ممارستها، وربما أيسر من إيجادها وتلقيها.
وأن التقدم الروحي والنمو النفسي والتعافي يتعلق في أعمق صورة باتساع مساحات المحبة منا، بأن نصبح قادرين بشكل أكبرعلى منح الحب، وعلى تلقيه!
هي تحتاج قدرة استثنائية في المنح، وقدرة استثنائية أيضًا لتمكننا من استقبالها إن توجهت يومًا نحونا.
فافتقارنا لمثلها جعلنا غير قادرين على منحها لأنفسنا أو للآخرين، وجعلنا كذلك غير قادرين على استقبالها إن توجهت نحونا ذات حظًّ حسنٍ.
للمحبة تلك القدرة الشفائية.. في المنح والتلقي معًا. ومانح المحبة بلا تلقًّ معطل الشفاء، ومتلقيها بلا منح متجمد بالروح.
ومعطوب المنح والتلقي مسكين محروم، يتجلى حرمانه في اضطراباته وتعثراتٍ تحمل ترجمات عرضية متنوعة، وأصلها واحد؛ وهو جوهر العطب في المحبة ومرتكز الحرمان!
أبعاد المحبة الشافية: مُطلقة ومستنيرة وعفوية
قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة، فإياك أن تعتقد أنك تفهم الآخرين بمجرد تحدثك إليهم...!
دوستويفسكي
ألم نسأل أنفسنا يومًا؛ لماذا لا تكتمل محبتنا للناس حتى نشاهد هامش الخطأ في حياتهم، وهامش البشرية والضعف، ومساحات الخلل والذنب، مساحات الحرج والخجل والخزي، مساحات التواري والعار.
حينها فقط نجد التعاطف وننهمر نحوهم في "التواصل الحقيقي" ونشعر بكمال المحبة وقدراتها السحرية، ونرتبط بشدة بتجربتهم، وهناك يحدث الشفاء لنا ولهم!
شيء ما يبدو ناقصًا حين يحاول أحد الطرفين في علاقة ما أن يؤكد على نصاعة الصورة، أو حين نتظاهر بأننا محض ضحايا في كل شيء، أو حين ننكر حقيقة أن كلنا يرتكب الأخطاء.
نستشعر حينها بعض البعد اللامفهوم، تزيد المسافة بيننا وتتسع بشدة، نشعر بأننا لا نثق بهم، وأنهم بلا شك لا يثقون بنا بما يكفي للبوح.
قفزة ضخمة نجريها مع أنفسنا حين نقفز نحو الضفة الثانية من الشفاء عابرين هوة الخزي والعار، عبر تعرية مخاوفنا ومخازينا، كافة الأمور التي نشعر بالحرج منها، ونلوم عليها ذواتنا، وكافة الأشياء التي لم نفصح عن أنفسنا فيها ولم نسامح ذواتنا على اقترافها... حين نكسر حجاب كتم الخطايا بمجازفة الاعتراف!
تلك الأشياء التي نظن أننا وجدنا من ارتكبناها، وأنها لفظاعتها تجعلنا سيئين للغاية.
حين أسمح بأن أتلقى (المحبة المستنيرة)؛ وهي محبة قد بُنيت على معرفة مستنيرة بكافة أبعادي، محبة قد وجهت إلى حقيقتي لا إلى صورتي.
حينها سأشعر أنني على ما يرام، فتلك هي المرة الأولى التي أتذوق فيها محبة لا مشروطة، ومستنيرة وحقيقية أيضًا.
يمكنني اليوم فقط أن أصدق تلك المحبة وأن أستقبل ذلك القبول، فقد قامت المحبة بعد تعرية حقيقتي، فتوجهت نحوي لا تجاه صورتي التي أحرص على ظهورها ولا أدائي الاجتماعي الذي أسعى لتزيينه!
كل محبة تم توجيهها نحونا دون أن تظهر قبلها حقيقتنا كاملة سنبقى نشعر أننا لا نستحقها، لأنها وإن كانت (غير مشروطة ومطلقة) فهي (غير مستنيرة) لأنها لم تطالع حقيقتنا كاملة.
والمحبة لا تشفي إن كانت (غير مشروطة) فقط، بل لا بد أن تكون (مستنيرة) تحمل إدراكًا لأبعادنا وتحيط بكافة جوانبنا، وذلك هو البُعد الثاني للمحبة الشافية.
العجيب أننا لا ندرك أن الآخرين يدركون أننا نتوارى ونختبئ، وأننا أحيانًا نتزيف وندعي، وأن صورتنا ناقصة، وأن هناك في أحجية حياتنا كثيرًا من القطع الغائبة، بل قد يشعرون أنهم غير قادرين أن يمنحونا المحبة، لأنهم لا يروننا بالكامل.
نظن أننا نتمكن من خداعهم والتلاعب بهم والتحكم في صورتنا بأعينهم... ولكن ذلك لا يحدث.
فالصورة الناصعة تؤرق الآخر، وتشعره أنه ليس ندًّا لنا ببشريته ليمنحنا المحبة.
ربما يشعر الآخر أننا لا نحتاج محبته، فصورتنا كاملة بلا أخطاء، وكل أخطائنا مبررة، أما هو فبشريٌ ناقصٌ محدود ممتلئ بالظلام!
إن البشر لا يمكنهم في الحقيقة أن يثقوا في شخص لا يُخطئ، مهما ادعوا غير ذلك، ومهما بحثوا عن المنقذ الكامل، والمخلص المعصوم.
لأننا لا نستطيع أن نثق في إنسان لا يقبل وجود مساحة من الخطأ كركيزة حتمية من ركائز الوجود.
وأحيانًا لا يمكن أن نثق في إنسان لا يسامح نفسه على مساحة من الخطأ صغرت أو كبرت، لأنه يومًا ما سيديننا ولن يتمكن من الصفح عن هفواتنا.
لا يمكننا أحيانًا أن نصدق تلك الرواية التي يرويها بعضهم عن حياته في عالم الفضاءات الافتراضية المفتوحة، فلا تحوي روايته شيئًا من الخلل يدينه!
أولى خطوات علاج الخزي
"إما أن تكون كما تبدو، وإما تبدو كما أنت"
الرومي
إن "الشفافية المطلقة" هي الإجابة الأولى على سؤال الخزي ومعضلته!
فالخزي، رفض للذات، وتخبية لها، يتحول صاحبه إلى جسمٍ معتمٍ، لا يمكنك أن ترى من خلاله، فهو لا يكشف إلا ما يريد، ويحاول دومًا تأمين نفسه ضد الرفض والنقد، يخاف الانكشاف لأنه يجد ذاته المكشوفة تبعث على التقزز أو النفور فيسعى لمواراتها، إما عبر التكتم والغموض، أو عبر الهرب من الحميمية والقرب، أو عبر "شيطنة" الآخرين ورفضهم والتخوف منهم وعدم منحهم الثقة بمبررات عقلانية كثيرة، أو عبر الكذب والمواراة والمراوغة والخداع، أو عبر تصدير صورة لامعة والحرص على المظهر.
المهم ببساطة أن المنطلق الرئيسي الذي يدفع إليه "محور الخزي" النفسي و"جوهر العار" هو (الإخفاء والتعتيم).
وبالتالي تصبح ببساطة أيضًا المجازفة (بالشفافية المطلقة) هي المداواة الرئيسية للخزي والمضاد النفسي بالغ الأثر له.
والشفافية هنا، أكبر من مجرد الصدق والأمانة.
هو الدرجة الثالثة من سلم التحرر.
دعنا نفهم الفرق:
الصدق؛ هو ببساطة عكس الكذب، وهو إطلاق الحقيقة كما هي متى احتجتها دون لوي للحقائق ولا تعديل ولا إضافات ولا تغييرات. وتلك هي الدرجة الأولى على درج الحرية.
أما الأمانة فهي عكس المراوغة، وهي إطلاق الحقائق دون حذف، ودون مقدمات، ودون مؤثرات نفسية كلامية لتوجيه الإدراك أن تخرج الحقائق كما هي لا كما نريد تزيينها لتبدو أكثر بهاءً.
فبالتالي يمكن أن تكون صادقًا دون أن تكون أمينًا؛ عبر حذف أشياء معينة أو تقديم وتأخير، أو مقدمات تبريرية وإضافة مسوغات، أو عبر غرضية مستورة في الحكي.
فالمراوغة والتلاعب كسر للأمانة.
والمقدمات الطويلة لتوجيه ذهن المتلقي نحو التعاطف كسر للأمانة.
وإضافة التبريرات كسر للأمانة، وتخفيف الحكي وتزيينه كسر للأمانة والانتقائية كسر للأمانة.
والمعاريض (التعريض المراوغ) قد لا تكون كذبًا ولكنها كسر للأمانة، والكتمان كسر للأمانة، وإن كنت في كل ذلك صادقًا في كل ما تقول.
والأمانة هي المرحلة الثانية من التحرر.
أما الشفافية لمطلقة، فدرجة أعلى، وفيها يمكن للناس أن يروا من خلالك.
أن تُخرج ما لديك كما هو، حتى دون أن تُدعى لذلك أحيانًا. أن تسمح لنفسك بإبداء أفكارك وهواجسك وأحلامك؛ خطاياك وبطولاتك؛ شرورك وجمالك على حدًّ سواء، لا تتحرج من شيء ولا تكتم شيئًا.
أن تبدو للناظر كما أنت في الحقيقة، أو أن تكون في باطنك كما تبدو في ظاهرك، مجازفًا في ذلك بالتعرض للنقد، والتعرض للشفقة، والتعرض لحماقات التصنيف والأحكام، والتعرض للنصح الاستعلائي.
أن تسمح للناس أن يفكروا فيك كما شاؤوا، ويتصوروك كيفما أرادوا مكتفيًا برؤيتك لدى ذاتك وقيمتك عند نفسك.
سنتعلم حينها، تدرجيًّا، كيف نتوقف عن استمداد صورتنا عن أنفسنا من آرائهم وتصوراتهم. سنتعلم ألا نستمد تقييمنا لذواتنا من مدى القبول الذي نتسوله من الخلق ولا من تصدقهم بالثناء علينا.
إننا هنا لا نتحدث عن دعوة علانية لذنوبنا، ولا عن استعلاء بخطايانا، فتلك حماقة متهورة ومرض مُرَكْبٌ، وخزيّ أعظم.
إنما نتحدث عن إفصاح عن تجربتنا بكل ما فيها من سقوط وقيام؛ من زلاتٍ واستفاقات؛ من مشاعر وأفكار وهواجس وإبداعات!
إننا نتحدث عن "أن تكون أنت كما أنت حقًّا!".
أن نخلع تلك النظارة السوداء والكلام الغامض والعبارات التي تحتمل معنيين.
ألا نعبأ بآثار حروفنا على مستمعٍ، أو الخسارات الوهمية التي نظنها ستحل بنا إن خرج ما عندنا للنور!
أن نتوقف عن الاعتذار عن أنفسنا، والخجل من ذواتنا.
خوف الانكشاف
ذلك الخوف الغريب المتعلق بالخزي الذي كان يحتلنا، ويشعرنا أننا متهمون بشيء ما، وكأننا مدانون، وعما قليل ننكشف، أو نفتضح، أو نتعرى!
ربما تعمقه داخلنا أشياء اقترفناها نحمل الخجل منها، وربما أشياء أخرى في أوهامنا فقط، أو كوارث ما نتوقع أن تنزل بنا، فضيحة ما، شعورٌ ما يملؤنا بأنه سيتم سحلنا وتعريتنا ومهاجمتنا.
شعور ينبثق من حالة العجز القديمة في الإساءة بأننا لن نجد من ينصفنا ويدافع عنا، أننا سنسقط فيتكاثر الشامتون.
بدأنا نتعامل مع خطايانا بنضج التعافي، بمسؤولية وأمانة، ونفصح عنها في نور شخص آخر، ونسدد ضريبتها بالتعويض والإصلاح بقبول وشجاعة، ولكننا لا نسمح لها أبدًا أن تنزع عنا استحقاقنا للمحبة والرحمة وللفرصة الثانية!
لم نعد نحشد طاقتنا للفرار منها ولا لتسويغها وتبريرها. فقط بكل بساطة (نعم لقد فعلنا)!
سنجد كل واحدٍ منا يسمح لنفسه بمساحة من الخطأ، ويمارس الصفح الذاتي تجاه نفسه؛ الصفح الذي سيساعده على مداواتها.
فقد تعلمنا أن من يجلد نفسه دومًا فهو يغمرها بالإحباط الذي يعيده لنفس الخطأ!
لذا ارتبطت التوبة في الأديان دومًا بالفرحة.
لذا فإننا عبر التحرر من الخزي بالشفافية، سنتمكن من بناء علاقة ناضجة مع قوتنا العظمى، (الله) بقدر فهمنا له وأيًّا ما كان اسمه بالنسبة لنا؛ علاقة تقوم على استشعارنا القبول اللامشروط كمرتكز للعلاقة، ويقيننا أن أفعالنا تتأرجح بنا في القرب والبعد (قربنا نحن منه لا قربه هو منا فهو القريب إطلاقًا)، ولا تتأرجح في الرفض والقبول أو في محبته وكرهه!
لم نعد بحاجة للمراوغة والالتفاف والكذب والإنكار والادعاء.
قد ادخرنا طاقتنا للعفوية والأمانة والحميمية.
لم نعد نحاول أن نروج لتعافينا.. لم نعد مهووسون بالتسويق لمساراتنا (انظر أنا أتعافى)، (اعترفوا يا سادة أنني أتغير)، لم يعد يعنينا، فقد سقطت الإدانة الذاتية فلم تستحوذ علينا إدانة جمعية!
وشعورنا بالتهديد لم يعد يحتلنا!
فقط المسؤولية الناضجة لتقبل كافة توابع أخطائنا وتخبطاتنا، من السماح لأنفسنا بمساحة من الخطأ والتحرر من البحث عن المثالية والكمالية.
البحث عن رفقاء التعافي
إن صادفت يومًا إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن أفق الروح أبدًا..
شمس تبريزي
يحاول كل منا أن يواري نزيفه الداخلي ويدعي القوة، ويتمنى لو يستطيع أحد ما أن يفهم ما يدور بداخله.
كل منا كان يظن أنه وحده من يعاني هذه المعاناة، يحدثه عقله: (لا يوجد من بإمكانه الفهم)، (لا أحد ليستوعب)، (لا يمكن لأحد أن يشعر بما تشعر به).
يخيل إليه أن ألمه شخصي جدًّا، فلا يمكن أن يقاسمه إياه أحد.
وكل محاولات الطمأنة وادعاء التفهم والشفقة والتعاطف كانت تزيد غربته، كان يتلمس أحد ما قد مر يومًا بهذا الطريق، قد نجا من نفس المأساة، كان يبحث عن منكوب آخر يعرف مسارات الجرح داخله، منكوب آخر قد تعافى وخرج والتأم.. ربما هذا ما يبحث عنه كل جريح.
لا يتعلق الأمر بمن يحمل علمًا أغزر، ولا من قرأ أكثر، ولا من حصد الكم الأكبر من الألقاب.
إننا حقًّا لم نكن نبحث عن ذوي الشهادات، ولا جامعي المقتنيات، وربما لا نبحث عن الأكثر حظًّا، أو الأكثر رواجًا، أو الأكثر شعبية.
في الحقيقة قد نستعين بهم، ولكننا لا نستلهمهم.
إن الناس لا يبحثون عمن يمنحهم نصحًا، أو توعية، أو تثقيفًا، أو إبداعًا لغويًّا، ولا يبحثون عمن يغدق عليهم علمًا، ولا من يروي لهم الأخبار فيتقن سردها وسندها، وربما لا يبحثون عمن يسرد لهم محتويات الكتب ومكنونات الصحائف، ويترجم لهم ما غمض عنهم من شفراتها.
إنما في الحقيقة نحن نبحث عمن خاض تلك المساحات المظلمة التي نخوضها، ومن يحمل ملامح من تلك الأشياء التي نحملها وترهقنا.
نبحث عن ذلك الذي يقف مستندًا على جروحه مبتسمًا ثابتًا ممتلئًا بالسكينة، وكلنا يتساءل أي معارك تلك التي خاضها؟ وأي وحوش تلك التي صارعها؟ وأي مساحات من أغوار نفسه أضاءها؟ وأي مخاوف قد التهمته وغلبها؟ وأي أفكار قد تناوشته فلم تهلكه؟!
نحن نبحث عمن نقتبس جذوة من روحه لا من عقله فقط، ولا من منطوق لفظه فحسب.
نبحث عمن شكلت حكمته التجربة لا العلوم.
نبحث عمن يمنحنا اقتراحًا مشوبًا بعرقه وخطاه التي عبرت بذات المنطقة التي تمر بها، لعله يتفهم ما تلاقيه.
لا نبحث عن ذوي الأبراج العاجية الذين يغمروننا بـ (افعل) و(لا تفعل)!
في عصورنا الحالية لم نعد نبحث عن قديسين، ولا نبحث عن أشخاص مثاليين، ولا نبحث عن الانقياء الأطهار الأسوياء، إنما نبحث دومًا عن أولئك الذين سكنتهم أعتى الأمراض ولكنهم استطاعوا ترويضها!، والذين تنتابهم أكثر الأفكار شقاء وخبلًا ولكنهم تعلموا كيف يقلمون أظفارها!
عن أولئك المشوهين الذين ثبتوا رغم التشوه، والمجروحين الذين لم يواروا ندوبهم ولم يزينوا عيوبهم.
عن الصادقين الناقصين، وأهل المحدودية والقصور.
عن البشر؛ ممكني الوجود، لا فائقي المعيارية. لا نبحث عن الذين يبدون ظاهريًا دومًا أكثر مثالية من أن يكونوا حقيقيين!
يلهمنا فقط أولئك الذين يتحولون عن تشرب الظلمة ويلفظون السواد وهو مترسخ بهم وهم متلبسون به، وينجون من كل ذلك الشقاء حولهم.
لتأتينا فكرة دومًا أمامهم، كبصيص أمل. (إذا استطاع مثله أن يفعلها، فيمكنني أنا أيضًا أن أفعلها!)
لا نحب أولئك الذين حين نراهم نكره أنفسنا، ونستقل جهدنا، ونشعر أننا لا نكفي وأنه لا أمل لنا باللحاق بهم، وأنه لا إمكان لأمثالنا في عوالمهم؛ لأنهم جيدون أكثر مما ينبغي، وربما أكثر مما يمكن.
وإنما نبحث عن أولئك الذين حين نراهم نعرف أننا لم نزل بخير، وأن في مساحات الفرصة الثانية متسعًا لأمثالنا، والدليل متجسد أمامنا فيه.
أولئك الناجون... حين نشاهد أحدهم يبتسم في قبوله الاستثنائي لكل شيء، وكأن لا شيء يدهشه، لا شيء يثير رفضه وأحكامه، وندرك يده التي تُفلت الأمور في تصالحٍ وتسليم استثنائي، يترك الأمور تسير ما تشاء، لا يستبطئ نموًا ولا يستعجل حدثًا، ولا يلهث ولا يحاول أن يثبت شيئًا لأحد، ويقبل بمساحته من الدنيا غير عابئ بكل ما اقتتل عليه القوم، ويرضى عن ذاته في غير عجبٍ، ويتحمل خطاياه بمسؤولية، ويعبر عن نفسه بجسارة، وكأن لا شيء بالكون قد يستحق منه كذبًا أو تلونًا، ولا أحد قد يستثير فيه مراوغة أو فرارًا يمنح الناس مطلق الحرية أن يفكروا فيه كما شاؤوا.
نتساءل حينها؛ تُرى أي المعارك قد خاضها؟ وأي الملاحم قد اختبرها؟! وأي البلاءات قد نزل بساحته؟ وأي المساحات المظلمة قد تجاوزها؟
محبة الذات
"كلما زاد خوف الطفل وكلما كانت تجربة التهديد مبكرة كلما صار من الصعب عليه أن ينمي شعورًا صلبًا وصحيًّا بذاته"
ناثانيال براندن
إنك لا تستطيع أن تحب أحدًا ما حبًا صحيًا، ما لم تحب ذاتك حبًا صحيًا!
العلاقة بالذات هي مرتكز كافة اضطرابات علاقاتنا بالناس، والحب الصحي للذات لا يتعلق بالدرجة إنما بالنوع بمعنى أنه ليس الأمر متعلقًا بكون محبتك لنفسك أقل مما ينبغي أو أنها أكثر من المفترض.
فالحب الصحي لا يقبل التفاضل، والمحبة الصحية لا يمكنها أن تقارن أو تقاس أو توزن بمعايير الكثرة والقلة فالأمر يتعلق بنوعية المحبة لا كميتها!
إن الحب الصحي بلا مقدار، سواء للذات أو حتى للآخر، هو ليس شيئًا كميًّا، بل إن كل محبة خضعت للمعيارية والقياس والمقارنة هي محبة مريضة أو مرضية!
النرجسي الذي يوصم دومًا بأن محبته لذاته هي ما يهلكه، هو بالحقيقة لا يحب ذاته، وإن مرضه يكمن في غياب المحبة الصحية للذات، فيسعى لاهثًا وراء كل بصيص يشعره باستحقاق الحب، فيستخدم الآخرين كوسائل وأدوات لتخفيف كراهية الذات بحشد أدلة الإعجاب كبوابة تحصيل لاستحقاق الحب.
النرجسي لا يستطيع أن يحب نفسه، بل يحمل عطبًا في قدرته على حب ذاته، وكأنه يحب نفسه باستخدام قلوبٍ مستأجرةٍ، وباستعارة محبتهم له! لذا يجتهد دومًا في المحافظة على مخزون دائم ومتجدد لتلك المحبة المستعارة لذاته!
ومدمن الحب والجنس أيضًا هكذا، تنبع كافة ممارساته من كراهية دفينة لنفسه وفقر مهلك في طاقات المحبة الموجهة لنفسه، فيبحث دومًا عن وسائل لتسكين ألم الكره الذاتي ذلك، أو يبحث عن ارتشاف دفقات البدايات، فوحدها تكون مفعمة بما يكفي من المحبة لتخفيف إكسير كره الذات المركز داخله.
فلدى مدمن العلاقات؛ فقط مع جرعة جديدة وعلاقة جديدة يمكنه أن يحب نفسه لبعض الوقت، فتبدو بداية العلاقات كاستراحات عابرة من كراهية الذات.
وتلك الفتاة المادية التي تتنقل بين الأوغاد، ويساء إليها دومًا ولكنها تنبطح في علاقات تستهلكها وتمتص طاقاتها، لكونها ترى في منطقة دفينة من نفسها أنها غير مستحقة للحب، وأن ممارسة العطاء القهري والصبر الموهوم ذلك هو فقط ما يمنحها استحقاقًا مؤقتًا!
للاطلاع على الجزء الأول:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-1/
للاطلاع على الجزء الثاني:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-2/
للاطلاع على الجزء الثالث:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-3/
للاطلاع على الجزء الرابع:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-4/
للاطلاع على الكتاب بأكمله: