أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين-4
بقلم: د. عماد رشاد عثمان
- أحد أشكال الامتناع عن الأخذ بسبب الخزي هو (أننا لا نأخذ شيئًا مجانًا قط)، لا نأخذ شيئًا دون أن ندفع مقابله ثمنًا أو ضريبة أو خدمة مقابلة!
نشعر بحرج أكثر من العادي إذا صنع لنا أحدهم معروفًا، يغمرنا شعور باستثقال منحه، وكأنه لا يمكن لأحد أن يهدر وقته وجهده في صناعة شيء ما لأجلنا.. نُعقلن الأمر، ونمنحه المبررات، ونضفي عليه صفة النزاهة الأخلاقية لنواري به شعور عدم الاستحقاق الدفين فينا.
المحملون بالخزي هم أولئك الذين لا يستطيعون الاتصال هاتفيًّا، وجل أوقاتهم استقبالًا لئلا يثقلون على الناس، وخشية تعطيلهم وإرهاقهم.
يقول أحدنا:
"دايمًا عندي مشكلة إني مش بقدر أتكلم في الفلوس حتى لو حتكلم في حقي أو حقوق الناس عندي حرج شديد إني أسأل عن الأجر أو إني أطالب باسترداد دين أو سلف أو إني أتناقش أو أحدد سعر خدمة بقدمها أو بتلقاها، لدرجة إني ممكن يتم استغلالي لما أتلقى خدمة أو إني يضيع حقي لما أكون أنا اللي بقدمها".
الشعور بالحرج في المعاملات بتلك الأشكال هو من ترجمات الخزي الداخلي وتدني القيمة، لذا يمتلئ عالمهم الداخلي بحاجات غير مشبعة وأسئلة غير مجابة، وخدمات غير مسددة الثمن، ومجهودات بلا طائل، واعتذارات على جنايات متوهمة بلا حقيقة واقعية، وتوقعات بالإثقال على الآخرين.
كلها ليست سوى معزوفات على ذات النغمة من عدم الاستحقاق، وتقسيمات على وتر عدم الكفاءة وعدم الجدارة بالأخذ!
لعبة التحليل
ومن الدفاعات النفسية الخفية الأخرى التي نمارسها هربًا من أنفسنا؛ (التحليل): وفيه نقوم بالتركيز على الآخرين، لا على سبيل الحكم كما ذكرنا من قبل وإنما تحليلًا لسلوكياتهم ومحاولة لفهم دوافعهم.
ولكننا نغرق فيهم!
تتحول الدنيا حولنا إلى ساحة تحليل؛ إلى مختبر نجري فيه أبحاثنا وننقب فيه عن الحقيقة، ولكنها حقيقتهم هم لا حقيقتنا.
يتحول الناس جميعهم إلى متحف نسعى إلى تحقيق مخطوطاته والكشف عن تاريخ حفرياته.
فنبدأ في سبر أغوار أحاديثهم، والغوص في غيابات تجاربهم، لنفهم لماذا يفعلون ما يفعلون!
نتحول لمقعد المشاهد ونتأمل الدنيا والسائرين فيها من وراء نافذة عزلتنا الزجاجية.
نغرق في تحليل الناس، ومحاولة تفسيرهم، وربما نستغرق في مساعدتهم، لنغيب عن مواجهة ذواتنا (وفي الحقيقة هذا هو الدافع الحقيقي المستور داخلنا؛ التلاهي بهم عنا).
دور "الاكتفاء الذاتي" الترقية الطبيعية لدور "المحلل صاحب الأجوبة".
فكيف يمكن لمن حدثناه يومًا عن الرفق بالذات وكشفنا له معتقدات الذنب وعدم الاستحقاق لديه أن يتصور أننا نحمل مثلها وأن ما نحتاجه هو نفس ما منحناه له؟
يتلعثم القوم في حضرتنا، يرون أننا نستطيع معالجة أمورنا أو أن تعاطفهم سيكون سخفًا وسيبدو ناقصًا في مرآتنا! فننعزل، ونعزلهم!
قد صنعنا حميمية بديلة، شروعًا في حميمية معطوبة؛ حميمية من طرف وحيد: طرفهم هم؛ من طرف الناس لا من طرفنا، فهم يحكون ونحن نستمع، وهم يفصحون ونحن نتعاطف، وهم يظهرون ونحن نتخفى!
والتعافي يتحتم فيه أن تجازف بالخروج من منطقة الراحة والأمان الزائف، فإن التعافي لا يتم في العزلة: التعافي لا بد أن يعبر بالآخرين. التعافي لا يتم في عالم مغلق عليك مع نفسك. هذا ليس تعافيًا مطلقًا.
بل هو مرض يرتدي قناع التعافي؛ طور من أطوار المرض أكثر خبثًا ودهاء، صوت مرضي يخدعك بأن يقصيك ويعزلك ويوهمك أنك لا تستطيع مخالطة الناس الآن، وأنك ستأخذ فقط بعض الوقت لتعيد تجميع ملفاتك؛ حيلة جديدة من حيل الخوف.
التعافي لا يعمل في الفراغ، إنما يعمل في دوائر حياتنا؛ وأهمها العلاقات؛ الصداقات والحميمية.
يعمل في تلك المساحة من مخالطة الناس ومشاهدة أنماط تواصلنا المعطوبة؛ كيف نراهم وكيف نشوه داخلنا إدراكهم لنا!
لذا كلما وجدت نفسك تميل للانحسار والكتمان والعزلة والاختلاء، فاعلم أنه صوت مرضك، وأن كل تلك التبريرات هي وسائله، وكل تلك المواقف التي نحشدها كأدلة لندخل كهوفنا الممتلئة بغبار الوحدة الأصفر الخانق، هي مجرد تسويفات ليبقى الإنكار!
التعافي لن يأتيك مهما انتظرت وحيدًا، فاقطع الهراء.
التعافي لن ينمو عبر كتابٍ تقرؤه في عزلتك، أو تأملات من وراء نافذة الحياة الشفافة في مغارتك.
التعافي لن يأتيك من جلسة مع معالجٍ أو استماع لمحاضرة ما، أو إبحارٍ عبر الانترنت، ولا حتى في استلهام قصص المتعافين من وراء الشاشات فقط!
إنما التعافي هناك في الالتحام في اصطدام النفس بالنفس، وارتطام القدم بالوحل، والانغماس في التفاعل مع الأشخاص والأشياء.
وإننا لا نقول بأن يكون كل وقتك في العلاقات، فالتعافي يعني المخالطة ولكن مع أوقات من (الخلوة) للتزود والجرد الشخصي والتساؤل والدهشة والامتنان والصلاة والاستناد والربت على الذات وحسن صحبة النفس، تجَهُزًا لدورة جديدة من مواصلة المخالطة.
و(الخلوة) غير (العزلة)، وذلك هو ما يُعلمنا التعافي.
(الخلوة) مؤقتة، عابرة، ممتلئة بالسلام والسكينة، نستخدمها لإعادة الشحن.
أما (العزلة) فغير معلومة المدى، وغير محددة الأجل، ممتلئة بالحنق والاستياء، (وممتلئة باستعلاء دفين لا واعي؛ بأنك بشكل ما خيرًا منهم، فأنت تفهم مالا يفهمون، وتدرك ولا يدركون، وتتحدث لغة عميقة لا يتحدثونها، وأنت تتعافى وهم لا يتعافون.
العزلة مرض، وهي وسيلة الأمراض والاضطرابات لتستأثر بنا.
ألم تر أن الاكتئاب يدفعنا للعزلة.
والقلق يدفعنا للهرب والاجتناب ومن ثم العزلة.
والإدمان يدفعنا في النهاية للعزلة.
لا نعلم اضطرابًا لا يريد في النهاية أن ينتهي بالمرء للعزلة، لكي يستحوذ عليه هناك ويلتهمه.
ككل ذئبٍ لا يأكل من الغنم إلا القاصية، الشاردة، المنعزلة.
ولنعلم أن هناك قاعدة في التعافي حين تغمرنا الحيرة، ولا ندري ما بداخلك هل هو صوت التعافي والاعتناء بالذات أم هو صوت المرض والوهم والإنكار:
(إن كانت الفكرة والصوت داخلنا يسعى لعزلنا فهو صوت المرض، مهما بدا لنا أنه يحمل وجه التعافي العطوف).
كل ما يؤدي لانحسارنا وإقصائنا عن الناس وإقامة السدود أمام تواصلنا معهم فهو المرض والاضطراب والوهم مهما ارتدى من عباءات الإرشاد ومسك بمسبحة الاعتناء وقال (إني لكم ناصحً أمينً).
التعافي لن يأتينا إلا عبرهم... وتلك قد تكون حقيقة مؤلمة ومخيفة، ولكنها الحقيقة.
كما أن للحكي خصيصة أخرى؛ أنه ينزع حساسيتنا النفسية تجاه التجربة بالتعرض الممنهج، عبر تكرار حكيها.
وبكثرة التعرض يخفت الألم، ونكف عن الذود عن المناطق الملتهبة من أنفسنا ونتوقف عن الإفراط في حمايتها عبر أن نقترب منها أكثر، وينمحي الوجع تدريجيًا حتى لربما يتلاشى.
لسنا مذنبين، ولا منقوصين.
فلنغص إلى أعماقنا المظلمة ونوقد هناك مشعل ضوء، وندخل هذه الأقبية المهجورة من نفوسنا والتي كنا نخشى دومًا محض الاقتراب من أبوابها.
فلنستحضر صورة ما حدث طوعًا، ولنعد هناك إلى تلك البقعة التي حدث بها الانتهاك، ولنواجهها داخلنا بشجاعة، فنحرر ذواتنا المتجمدة هناك بين براثنها، فنستعيد اتزاننا، وتحكمنا، وسلامنا الداخلي.
ربما سيبدو الأمر صعبًا في البداية، وربما قد نحتاج دعمًا ومعونة، ولكن عما قليل تتحطم المحارق والمشانق التي أقامتها التجربة في دهاليزنا النفسية.
وتلقي أرواحنا مخلفات المسيئين التي تركوها فينا.
عما قليل، سنجد ما يذهلنا، وتتفتح إمكاناتنا وتتحرر طاقاتنا المعطلة ونستعيد سلامنا المسلوب، ونحرر أرض ذواتنا المحتلة!
المخرج من الأمور... عبرها!
أرى الله بقلبي كلما ابتسمت لي عينا أمي، ومد لي صديقي كفه.. أرى الله فيمن أحب، وأعلم أن الله يُحبني.
الحلاج
إن الطريق المؤدي لتجاوز أي شيء هو من خلاله!
وبالأخص كل ما يتعلق بمشاعرنا وحيرتنا وارتباكاتنا، المخرج منها لن يكون أبدًا عبر محاولات الاجتناب والتأجيل، ولن تنتهي الأمور بمجرد تركها لتسقط من تلقاء نفسها.
والزمن لا يفعل فعله في التجاوز ما لم نمنحه اختراقًا كاملًا بنور الوعي لما يؤرقنا!
ثلاثة أنماط مرضية كنا نستخدمها للخروج من كل أمرٍ يربكنا: عبر (الاجتناب) أو عبر (التلاهي) وانتظار سقوطها بالتقادم، أو عبر (التلاعب).
الاجتناب: بتعمد عدم التطرق للأمر، والحرج واستثقال فتح قارورة المواجهة.
والتلاهي: عبر التركيز على أمور أخرى، كمثال الفيل في الغرفة الذي يتجاهله الجميع، فنتغافل عن هذا "الفيل" الضخم الذي يجاورنا في الغرفة وكأنه ليس هناك، والتركيز على البرواز المعلق على الحائط المقابل!
والتلاعب: هو محاولتنا لحل المشكلات والتوترات بالإشارات أو التلميحات أو الدخول إلى مساحة موازية نعبر بها نحوها؛ ربما عبر المداعبة أو المزاح أو فتح قنوات وأنفاق ملتوية تحملنا للمنطقة الشائكة دون المرور بحراساتها الشعورية المشددة!
ويومًا ما لن يعود شيء يخيفنا.
تحضرني تلك الجمل الأخيرة في فيلم split
(المجد لنا، فليس علينا أن نخاف ثانية.
فإنه فقط عبر الألم يمكنك أن تحقق المجد لذاتك.
إنما الملوثون حقًّا هم أولئك الذين لم يمَسوا، ولم يحرقوا، ولم يذبحوا.
أولئك الذين لم يتم تمزيقهم يومًا ربما هم من ليس لهم قيمة في ذاتهم، وليس لهم مكان في هذا العالم، فهم راقدون نيام بغفلتهم!
فالمكسورون فقط هم الأكثر نموًّا)!
مراحل التعافي من الإساءات
الحياة لا تعطي دروسًا مجانية لأحد، فحين أقول إن الحياة علمتني تأكد إني دفعت الثمن.
"نجيب محفوظ"
لكي نفهم مسار التعافي لأولئك الناجين من الإساءات، وبالأخص إساءات الطفولة المتعلقة بسوء معاملة الوالدين.. دعنا نقسمها لمراحل، لكل مرحلة خصائصها المتميزة.. قد تشبه مراحل التعافي المؤذية والفقد في نواحٍ، وتختلف في نواحٍ أخرى.
المرحلة الأولى: الإنكار:
الإساءة نظام مغلق؛ بمعنى أن الأسر والعائلات التي تتم فيها الإساءات تعتبر نظامًا مغلقًا يحافظ على نفسه وعلى بقائه وعلى توازنه عبر مجموعة من المعتقدات والتبريرات والأنماط السلوكية ليبقى النظام قائمًا دون اضطراب يهده أو قلقلة تؤدي إلى انهياره.
فبالرغم من أن الأسر التي تعتمد الإساءات (التخويف والضرب والإهانات وغيرها) هي أسر مضطربة ومعطوبة وظيفيًّا إلا أنها تبقى قائمة رغم اضطرابها؛ حيث يتم إجبار فرد من أفرادها وكل عنصر من عناصرها على لعب دور معين والقيام بوظيفة معينة تحافظ على قارب الأسرة طافيًا.
فتجد مثلًا دور رمز السلطة (الأب) المتسلط، وتجد دور (الضحية)، وتجد مثلًا ابن أو ابنة تلعب دور (كبش الفداء) أو (القربان) الذي يُلقى عليه اللوم دومًا وتُلقى عليها مسؤولية الأمور، وتجد مثلًا ابنًا يمثل (المنقذ) وهو الذي تُلقى على عاتقه أحلام الأسرة وطموحاتها، وتجد أحد الأبناء يلعب دور (المتمرد المشاغب) الذي يُرهق الأسرة ويسعون دومًا لتلافي آثار خيباته، ويصنع دور (الرابط) بين أفرادها والذي يجمعهم جميعًا على هدفٍ كل حين وآخر وهو إخراجه من ورطة أو إنقاذ الأسرة بكاملها من آثار تخبطاته.
وهكذا دومًا الأسر المعطوبة؛ تجد الأدوار يتم توزيعها لتبقى تلك المركبة طافية رغم أعطابها، ويبقى التجديف مستمرًا رغم أن كل شيء فيها يشي بالغرق.
لذا فإن أول أشكال الإنكار لدى هذه الأسر هو قَبول كل فرد من أفرادها لعب دور معين.. تبقى حياته بأسرها تدور في فلك هذا الدور، ولا يعي الفرد وهو يقوم به أنه قد تمَّ إجباره. لا شعوريًّا على لعب هذا الدور؛ حفاظًا على بقاء هذه الأسرة المعطوبة من التمزق والغرق.
حتى وإن بدا هذا الدور معيقًا للأسرة نفسها. ظاهريًّا. إلا أن له في الخفاء وظيفة ترابط خفية، كما نجد مثلًا في تلك الأسر التي تحمل ابنًا أو ابنة مدمنًا.. تُلقي عليه الأسرة الويلات واللعنات، ولكنه في الحقيقة يقوم بدور خفي قد تم دفعه للعبه زمنًا طويلًا.. دور يلهي العائلة عن أعطابها الداخلية وعن ذلك الإحباط في العلاقة بين الأبوين، لينصب التركيز فقط على مشكلة الابن المدمن الضال وكأنه يمثل العقبة الوحيدة أو ربما (الشماعة) التي تعلق عليها كافة إحباطات وخسائر الأسرة بأسرها.
فلا يدري هذا الابن ولا تلك العائلة أن دور (الإلهاء المؤلم) الذي يلعبه، إنما هو يزيح به التركيز عن المشكلات الرئيسة نحو مشكلة الفتى المشاغب، ويتم استخدامه ككرة ملتهبة من الذنب واللوم يلقيها الأب على الأم فيصفها بالإهمال واللين وإفساده (بالدلع)، وتلقيها الأم على الأب الغائب متهمة إياه بالتنصل من المسؤولية وعدم القيام على أمور الأسرة وحقوقها والانكباب على عمله، ليعود الأب ليلقي اللوم متسائلًا في استنكار عن منطلق هذا الانكباب على العمل الذي لم يكون سوى محاولة مستميتة منه لموافاة طلبات هذه الأم التي لا يعجبها شيء ومحاولة منه للإبقاء على نوعية من الحياة الراقية التي تطلبها.
وهكذا يتحول الفتى إلى إكليل لهذا الإحباط ومفرًّا لكل واحدٍ منهما ليجد فيه مساحة للتحرر من المسؤولية والتنصل من نصيبه من الخطأ والأهم أنه رغم هذا الصراع الدائر بينهما إلا أنهما يُبقيان جهودهما موحدة لمواجهة المشكلة وتلافي خطايا الفتى.
دور (المصلح): وهو دور يقوم به الابن أو الابنة (وغالبًا ما تكون الابنة) لشد روابط هذه الأسرة عبر إصلاح البين في تلك العائلة.. فتسعى لدوام التوفيق بين الأبوين دائمي الصراع أو بين الأخ الأكبر والأم الحانقة.
وخلال هذا التوفيق قد يضطر المصلح للكذب والمهادنة والانتقاء والمراوغة لإعادة لم الشمل ورأب الصدع.
وخلال هذه المحاولات ربما ينسى (المصلح) نفسه فيتحول ليلعب هذا الدور مساحات حياته.. فيلعبه في العمل والحياة ومع الأصدقاء، فلا يكاد يتحمل (زعل) أحدهم ويتحول إلى حلقة الوصل المتفانية دومًا لربط الأقطاب المتنافرة، وينسى ذاته في هذه الأثناء، ويتنازل عن أحلامه، ويهدر طاقته التي كان لابد من توجيهها لتحقيق إمكاناته نحو إفنائها في محاولة جبر الجميع على الإبقاء على الابتسامة الدافئة الصفراء بينهم.
دور (السفنجة): وغالبًا ما تقوم به الفتاة؛ حيث تحولها الأم لكيس تفريغ لهمومها.. فتصب بين يديها آلامها وإحباطاتها، وشكايتها من الأب الذي لا يقدر احتياجاتها، والأهل الذين لا يعبؤون بآلامها.
وهكذا تتحول الفتاة المحملة بالهموم إلى دور (السنيدة) لتلعبه في حياتها بكاملها، فهي حوض تفريغ الهموم لصديقاتها، والكتف الذي يقف دومًا متحاملًا ليستند عليه الجميع.
تتحول إلى (رقم اثنين) دومًا في كل علاقاتها، كل احتياجاتها تالية، وكل رغباتها تأتي بعد رغبات الجميع.
تتحول إما لشخص إرضائي إيثاري يُقدم كل أحد على نفسه قهرًا، أو لشخص ناقم غاضب يشعر بالغربة بسبب نقمته وحنقه من طول لعب هذا الدور، ولضيقها الدائم باحتياجاتها غير المسددة، وعدم احترام مساحتها من الوجود!
دور (رأس الحربة) ويقوم به الابن أو الابنة، (قد يكون، البكر غالبًا أو الذي في أسرة لديها من يقوم بدور المتمرد)، وهو الدور الذي يصبح مصبًّا نهائيًّا لكل أحلام الأسرة وطموحاتها وتحويل خيباتها وخساراتها إلى طموحات تقع جميعها على كاهل هذا الفرد.. فيقرر الالتزام بتحقيقها، حينًا عبر الهوس بالالتحاق بوظيفة معينة (كلية من كليات القمة، أو السلك القضائي أو الميري)، وحينًا عبر الزواج (إلى أعلى) hypergamy؛ بمعنى زواج يتجاوز الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الأسرة نحو طبقة أخرى ترفع بأكملها إلى تلك الطبقة الأرفع.
يبدأ هذا الفرد يعرف نفسه وغاية وجوده من خلال هذا الدور.. يجعله معنى حياته ومناط تفاعله في الحياة، ربما متنازلًا عن ذاته وعن كينونته وعن أحلامه وشغفه وتفضيلاته متبعًا هذا الحلم الزائف.
دور الظل:
وغالبًا ما يقوم به (الابن الذكر الثاني)، أو (الابنة الأنثى الثانية) في تلك العائلات التي يتم فيها تبجيل الأول وتقديمه ومنحه مساحات كبرى من التدليل والاهتمام، فيتحول الثاني إلى ظل للأول لا أكثر، مجرد كيان شفاف، تابع مجاني الوجود لا يؤبه له، ويوافق هو ضمنًا على لعب دور الظل في تلك الأسرة.. دور المضمون المسالم به الذي لا يكترث به أحد.
الدور الذي يجعلهم يختارون له كل شيء، والذي غالبًا ما يكون نتاجًا لخبرتهم مع الظل السابق (الأول).. يصبح هذا الفرد هو دومًا الاختيار الأخير الذي لا يلتفت له أحد.. السلعة الكاسدة التي لا تثير انتباه أحد.
وذلك قد يؤدي إلى أحد مسارين:
- الأول: هو استنامته لهذا الدور وإتقانه للعبة، فيصير (المجاني) الموافق دومًا، أو كما يُقال في المثل الشعبي (جاي مع العفش).. يتحول إلى (إمعة)... مجرد مشروع لاختيارات الآخرين تابعًا لإرادتهم.
- أو مسار ثانٍ عكسي حيث يتمرد هذا الفرد فقط ليلفت الانتباه، يحاول أن يبقي على آخر آمال تفرده عبر مقاومة التيار السائد.. فيتخذ كل قراراته فقط معاكسًا للاختيار السائد ومناقضًا للمتوقع.
فهل يحقق ذاته عبر ذلك؟
لا، بل على العكس؛ ففي كلتا الحالتين: الموافقة الكاملة، والرفض المناقض والتمرد لمحض التمرد، يصبح متأثرًا بهم غير معبرًا عن ذاته وكينونته.
ويتجلى الإنكار حين ندعي أننا قد تحررنا من تلك العائلات المعطوبة أو تجاوزنا الإساءات، ولكننا لم نزل مأسورين نقوم بنفس الأدوار في كل مساحات حياتنا، ونعرَّف أنفسنا من خلالها، بل ونشعر بالضيق والانزعاج إذا توقفنا عن لعبها والتفتنا إلى ذواتنا نحاول اكتشاف حقيقتنا ولعب الأدوار التي تليق بنا، لا تلك التي أملتها علينا ظروف نشأتنا في عائلات احتاجت لمن يلعب هذا الدور!
قيد (الدور): النمط الذي استمررنا في صنعه لأنفسنا؛ (التيمة) التي نظهر بها؛ الصورة التي نتعمد ونحرص طويلًا أن نظهر بها لمن حولنا، حتى أننا لم نعد نملك فكاكًا منها.
أتدري تلك المقولة (أن مخرجي السينما حصروا فلانًا في أدوار الشر، لذا فإنه إن حاول أن يلعب دورًا مختلفًا لاستغربه الناس ولم يستسيغوه).
هكذا فُعِل بنا، وهكذا نحن نفعل بأنفسنا، نختار دورًا بشكل لا واعي ونقوم به، ولا نستطيع أن نخرج عنه، ويبدأ الناس في رؤيتنا من خلاله، وكأنهم لا يبتلعون إمكان وجود مساحات منا لا علاقة لها بهذا الدور؛ مساحات لا يستطيعون رؤيتها، أو أننا لم نعد نتمكن من إظهار تلك المساحات والتعبير عنها.
ذلك الدور النفساني الذي اعتدنا القيام به (دور المنقذ)، (دور كبش الفداء)، (دور الضحية)، (دور المهرج)، (دور السنيد)، (دور النجم)، (دور دليل الطريق ومانح الإجابات)، وغيرها من الأدوار الشائعة.
يمكنك أن تتخيل دور السنيد الإرضائي، حينما يتوجع فلا يجد من يتفهم ألمه ويشعر بالاغتراب. ولكنه لا يدري حينها أن للأمر جذور في نمط تفاعله مع المحيطين أصلًا؛ أي أن اغترابه يحمل مساحة كبيرة من صناعته ومسؤوليته الشخصية عن لعبه الطويل والمتقن لهذا الدور الذي كان يلبي له طويلًا تسديد احتياجات القبول والمحبة!
وتأمل مثلًا من يقوم بدور "الدليل"؛ "الحكيم"؛ حامل الإجابات، كيف ستكون حيرته بمواقيت الحيرة أعنف وأشد وستحمل ألمًا مضاعفًا؛ ألم الحيرة نفسها مضافًا إليه التناقض بين وجود الحيرة وبين ما "يفترض" أن يمليه عليه وما يقتضيه الدور الذي يلعبه! لذا فإن دوره يضيق عليه ويخنقه، ويشعره بالزيف والازدواجية.
ومع الوقت فإن عملية "الاختناق بالدور" تتغلغل في أعماق وجودنا وتخترق كل مجالات سلوكنا بشكل لا يمكننا تصوره حقًّا.
وبالتالي بدلًا من أن تكون الكتابة فعل تحرر، أصبحت تحوي قيودها الخاصة وحدودها التي أنشأها لي دورًا طالما اجتهدت في صناعته، دورًا كان يلبي لي احتياجًا؛ (احتياج أن يأخذني الناس على محمل الجد!)، وربما هذا الدور كان يسكن خوفًا (الخوف من الاستهانة أو الإهمال أو اللاكتراث).
فكل دور نلعبه قد يمثل لنا منطقة الراحة مسددًا احتياجًا ومسكنًا لخوف ما، ثم بمرور الزمن هو يضيق نسبيًّا ويبدأ في التنغيص والتعكير، ويتوحش في تنغيصه مستقبلًا إن استمررنا في لعبه ولم نجد طريقة ما للفكاك منه.
ودور آخر قد يلعبه بعضنا، (دور المكتفي بذاته) أو (دور القوي الكتوم)، وكأن لسان حاله دائم القول "لا احتاج منكم أحدًا"، "لا أهتم بأن تكونوا بالجوار"، "لن يرى أحدًا هشاشتي ولن يطلع على ضعفي".
دور كان أيضًا يسدد احتياجًا وهو الحماية من الألم ويسكن خوفًا من الحميمية والانكشاف ويخفف مشاعر الخزي والرفض!
ودور (المُساعِد صانع البهجة) الذي لا بد أن يظهر دومًا ملهمًا، ومحفزًا، ونورًا للاهتداء!
ولا يمكنه قط أن يحظى ببعض الاكتئاب بأريحية، لا متسع للألم، ولا يملك رفاهية الانكسار.
مأساة هي أن يطل عليه الاكتئاب يومًا بسواده وألمه، ضيف ثقيل يحمل معه لافتة "لا ينبغي لمثلك أن يخوض تلك التجربة الآن" وتندرات انخلاع "باب النجار".
وإن كان دورك (حلال العقد)، أصبحت مطالبًا بخلق الحلول كنبيًّ خارقٍ للقواعد حاملٍ لعصا الإعجاز فيلقي القوم بين يديك آلامهم ويصرخون بك متعجلين (جِد حلًا)
كان هذا الدور يلبي لك بالأمس احتياجك للقيمة والأثر، واليوم هو يضيق عليك، وإن لم يضق فقد أصبحت مطالبًا بفعله دومًا دونما مستراح!
هم ليسوا من يغرقون في الطلب، بل يومًا ما نحن من اخترنا الاستمرار في لعب الدور، يومًا ما كانت تلك منطقة الراحة بالنسبة لنا.
إن (الأدَوارَ) مُسَكَّناتُ زائلةُ ولا شيء سيريحك سوى حقيقتك.
إن بعض الألم الناجم عن الإظهار الأمين لحقيقتك والانخلاع من أنماط الأدوار يستحقه السلام القابع في نهاية طريق التحرر و"التحقق من الذات".
والتحقق من الذات والتطابق معها هو المرادف الأكثر بداهة للتعافي.
- ومن أشكال الإنكار أيضًا: [الإلغاء الذهني لوجود الإساءة]، عبر الذاكرة الانتقائية:
حيث ننتقي من طفولتنا الأحداث الجيدة ونزيح مساحات الصدمة وذاكرة الإساءات فقط لتبقى الصفحة بيضاء، فتجد أحدنا لا تزال جراحه تنزف ولكنه يبقى يعلن ويؤكد أنه لم يُجرَح وأن طفولته كانت نِعم الطفولة، وأبويه كانا خير أبوين.. يبقى يضفي على عائلته صورة مثالية ويعلنها حتى يصدقها، وإذ به يتحسس دواخله فيجد الألم والأذى ومشاعر الغضب، ولكن عقله يأبى أن يضيف الجرح إلى صاحبه أو ينسب الإساءة لمن اقترفها، لذا ينسب الخلل لنفسه، ويصبح هو الضحية والمتهم معًا، ويقرر أنه هو المعطوب وأنه هو السبب وأنه من كان يستحق؟!
- ومن أشكال الإنكار: [التبرير المؤذي]:
وهنا نقطة بالغة الأهمية؛ فإننا حين نتحدث فيما بعد عن التنازل وعن الغفران وعن التسامح سنحاول فهم المؤذي وتفسير ما حدث، وربما يختار بعضنا أن نعذره أحيانًا لنتحرر!
ولكن كيف يمكن أن يكون التبرير للمؤذي علامة من علامات الإنكار:
الإجابة: إن العبرة بالتوقيت... فأولًا التفسير لا يساوي التبرير، وثانيًا فإن التبرير هو إنكار، ومحاولة التفسير المبكر هي نوعً من الإنكار!
يتم تسويغ الإساءة بأحد الأسباب التالية أو غيرها:
- إنها كانت ضرورة تربوية؛ فيتم تبرير الضرب بالتأديب أو القسوة بأنها نوع من التأهيل لخشونة الحياة أو تسويغ الصرامة المؤذية بأنها من سبيل غرس الرجولة.
- إن الطفل هو من تسبب فيها بمشاغبته أو بعناده أو بصعوبة مراسه، ولكونه طفلًا مرهفًا شاق التأديب لا ينفعه سوى الأساليب المتطرفة.
"كبرت وأنا شايف إن أنا السبب في كل اللي جرالي، أنا اللي كنت شقي واستحق كل اللي حصل، لدرجة إني بقيت مش بتعدل غير لما باخد على دماغي، وإن حتى ربنا نفسه بيعاملني كدة، وكأنه كل ما يبقى عاوزني كويس لازم يبتليني ويعاقبني عشان أفوق.. لك أن تتخيل بني آدم ماشي في الحياة شايف إنه لا يستحق غير الألم، وإن الألم هو الشيء الوحيد اللي ممكن يحافظ عليه كويس!".
التناقض الشعوري: Ambivalence:
دعنا نفصل فيه الحديث لأنه من محطات التكوين والتعافي المهمة للغاية..
التناقض الشعوري ببساطة هو أن يحمل الإنسان شعورين متناقضين تجاه نفس الشيء أو نفس الشخص أو نفس الموقف.. بمعنى أن يحب ويكره في نفس الوقت، أو يشعر بالغضب والامتنان تجاه نفس الشيء.
وتلك الحالة من الانقسام الداخلي، ووجود الشعورين المتناقضين هي سمة أساسية لكل من تعرض للإساءة، يساهم في صناعتها.
- التناقض بين الفعل والقول: الرسالة المزدوجة التي يرسلها الأب المؤذي والأم المؤذية بين كلامه عن الحب والمصلحة وبين فعله الوحشي وانتهاكه العاطفي لأبنائه.
- شعور الابن والابنة أنفسهم تجاه والديهم، فحب الوالدين أمر فطري وغريزي وطبيعي تجبل عليه النفوس.. هما أهم الأشخاص في حياته الأولى، والتعلق بهما هو أول المشاعر التي تطرأ على القلب الغض متبرعم المشاعر.
وهكذا يحدث الانقسام الداخلي splitting تدريجيًا، تتشكل القوتين (القوة المحبة) مقابل (القوة الكارهة).. طاقة مشاعر تدفعه للقرب، وطاقة مشاعر مناقضة تدفعه للهرب.
ولم يزل هذا الطفل الناشئ لا يتمكن من استيعاب التناقض، لذا يحدث الصراع الداخلي والاضطراب الأعمق.. ينشأ داخله نوع من القطبية التي تهتز بين الطرفين المتقابلين فيغلب واحدًا على الآخر، وكأن مشاعره أصبحت متعلقة ببندول مغلق يتأرجح بين قطبين لا يجتمعان.. بل ينقسم العالم بأسره إلى قطبين وتنقسم معه الذات.. فاليوم أبي يعاملني بشكل جيد؛ إذن أنا جيد good me، أو هو جيد good father، أو العالم جيد good world، والآخرون جيدون good other، ومشاعري جيدة good feeling..
وهذا يعاملني بشكل سيء، فهو سيئ bad father، أو أنا سيئ bad me، أو العالم سيئ bad world، أو الآخرون سيئون bad other.. وأنا أكرهه، ولدي مشاعر سلبية! Bad feeling.
وكم هو مرهق هذا التأرجح بين العالمين، وذلك هو ما يشكل حالة التقلب المزاجي بل والتقلب في الصورة الذاتية، والتقلب في رؤية العلاقات لدى أولئك الذين يعانون من صدمة الأهل.. فنجدهم مثلًا يتأرجحون في صورتهم عن ذواتهم.. فيومًا يرى نفسه جيدًا ويستحق يعرف نفسه وما يريد ويجد ذاته وينبع شغفه، ويومًا آخر لا يرى نفسه مستحقًا بل هو شخص سيئ ومتدنَّ وبلا قيمة وبلا جدارة ولا استحقاق، وربما لا يدري؛ (من أنا؟)، ولا (ماذا أريد؟)، ولا (إلى أين أذهب؟).
يحدث نوع من التعويم للصورة الذاتية، تتقلب وتتقلب معها الحالة المزاجية والشعورية، ولنا أن نتصور هذا الألم واللاتوقع والشعور باللايقين والتمزق وتبعثر الثبات الداخلي والاتزان النفسي!
وتجد مثلًا تأرجح في التوجه ناحية الأبوين؛ فيومًا يرى نفسه مقصرًا في حقهم، وأنهم جيدون بما يكفي، وأن كل شيء على ما يرام، بل قد يرفعهم لدرجة التقديس والملائكية.
ويومًا آخر يراهم سيئين وبلا قيمة ولم يفعلا شيئًا واحدًا يستحق التقدير، وأنهما مصدر الشرور وسبب الآلام جميعها والمسؤول الأوحد اضطراباته وخطاياه أيضًا!
- ومن أشكال التبرير الإنكاري وتسويفات الإساءة أن يتم استغلال بعض النجاحات التي تم تحقيقها ويتم ربطها بالإساءة كارتباط سببي، وكأنها لم تكن لتتحقق إلا عبر الإساءات، وكأنه لا يحق لمن وقع عليه الإساءة أن يتألم أو يتوجع أو يرفض آثار تلك الوحشية البدنية أو الانتهاك النفسي ما دام قد وصل في النهاية لأن يكون طبيبًا أو مهندسًا أو شخصية مجتمعية ذات مكانة.
وبالأخص أن كثيرًا من الإساءات يتعلق بمنطلق الرغبة في التقويم التربوي ومحاولة شائهة لصناعة شخص سليم أخلاقيًّا، أو يحمل [معايير الأدب الاجتماعي]، أو لحثَّه على التركيز على دراسته أو تحفيزه للتحصيل والإنجاز والتفوق.
فالفرق بين النجاح الحقيقي والنجاح القهري هو حالة الفرد في غيابه!
ففي حالة النجاح الحقيقي يشعر الفرد في الأصل بأنه مخلوق قيَّم ومستحق وجدير، يشعر بالراحة مع نفسه وبقدر معقول من الاستمتاع بالحياة، وإذا جاء هذا النجاح فهو يمنحه اللذة والسعادة ومزيد من الامتلاء والإشباع.
أما في حالة النجاح القهري وهوس الأداء الناجم عند المتعرضين للإساءات فإن في الأصل يشعر الفرد بأنه غير قيَّم، وبأنه لا يستحق، وبأنه بلا قيمة بل بغيض وسيئ ومنفر.. فيسعى لاستمداد قيمته عبر أدائه الحياتي وإنجازاته ونجاحاته لعله يخفف شعوره بالدونية وانعدام القيمة.
بين الوجود والفعل
يقول باسكال (معظم شرور العالم تنشأ من عدم قدرة الرجل على البقاء ساكنًا في غرفة)
وفعلًا؛ كثير من الشرور تنشأ من هذا الأمر، (عدم قدرتنا ألا نفعل شيئًا)!
قد أصبحنا نخلط بين (الوجود) و(الفعل) رغم كونهما مساحتين مغايرتين تمامًا، قد يتقاطعان كثيرًا لكن ليس بالضرورة أن يتطابقا دومًا
Being and Doing
أصبحنا نتخيل أنه لا بد أن نُمضي الوقت نفعل شيئًا ما، أو ننجز شيئًا!!
وكأن وجودنا يقتضي الفعل والأداء والإنجاز وتحقيق شيء ما!
المرحلة الثانية: الغضب
"أولئك البالغون الذين كانوا يومًا ما أبناءً لآباءٍ مؤذيين، سيجدون صعوبة بالغة في التعامل مع الغضب، لأنهم قد نشأوا في عائلات لم يكن مسموحًا فيها بالتعبير عن المشاعر، والغضب كان شيئًا يحمل الأبوان فقط امتياز إظهاره، غير مسموح لسواهم".
سوزان فوروارد
في تلك المرحلة قد سقطت المبررات وزالت حجب الإنكار، وأصبحت الإساءة واضحة والقصة بيَّنة التفاصيل وتجلى ما حدث.
"لقد تمت الإساءة إلينا، وتلك الإساءة قد صنعت شروخًا مؤلمة، بل وأنماطًا مرضية استخدمناها لحماية ذواتنا".
لقد شوَّهنا شخص ما ونحتت الإساءة ملامحنا النفسية!
إن التعافي كالمخاض لا بد أن يحمل مرحلة من الألم العنيف، وصب السخط والإقصاء.
إن ما تمر به طبيعي واحتياجك للتنفيس عن غضبك والإفراج عن ألمك مفهوم تمامًا.. وعدم قدرتك على الانصياع لدعوات البر والمطاوعة مقدر تمامًا.. لا بأس؛ لا حاجة لك لئن تمتلئ بالذنب لأنك لا تستطيع مواصلة الملاطفة وحسن المعاملة في هذه الفترة.. لا حاجة لك لأن تمتلئ بالخزي لكونك غير قادر على تلبية نداء البر.. لست مطالبًا بالتواصل العميق الآن، دع التعافي يتَّخذ مساره، وامنح الجرح فرصة للالتئام.. لا بأس؛ لا تجبر نفسك على ارتداء قناع جديد أو تجديد هذا القناع البالي للابن المطواع أو للابنة البارة.. لست مطالبًا بمثل ذلك، الإساءة تجبُّ اضطرارات البر، وسوء المعاملة الأول يحجب إجبارات حسن المعاملة الأخير!
إن إحدى أهم المحطات في التعافي من الإساءات هو أن تدرك أنك لست ذات الطفل الخائف الذي يتم تهديده بالعقوبة أو يُستخدم معه سوط (العقوق) ومزايدات البر والتهديد بالحرمان من رضا الله!
* هناك قصة توضح معتقدات الإساءة، تتحدث عن فيل صغير وليد ابتاعه رجل يملك سيركًا ثم ربطه بوتد خشبي صغير، فأخذ الفيل الصغير يشد الحبل ويقاوم ويتشنج في البدايات ولكنه كان وليدًا صغير البنية وكان الوتد أقوى منه.
حتى استسلم الفيل الصغير واعتقد أن (الوتد أقوى من رفضه)، ثم تمر الأيام والسنوات ويكبر الفيل كثيرًا ويصير حجمه أكبر عشرات المرات من حجمه كوليد، ويفوق حجمه قوة الوتد كثيرًا.
ولكن لم يزل حارس السيرك يقيد الفيل الضخم في نفس الوتد الصغير! لماذا؟ لأن الفيل ببساطة لا يجرؤ الآن على اختبار الوتد! لا يزال الفيل يظن الوتد أقوى من رفضه، لا يزال يظن نفسه ذات الفيل الصغير الوليد العاجز.. لم يجرب الفيل أن يجذب الحبل ولو لمرة واحدة بعدما كبر ونضج ليختبر قوته الحقيقية، ليعلم أن ما يقيِّده إنما هو داخل ذهنه فقط! وأن شعوره بالعجز إنما هي جرثومة وحيلة تم زراعتها داخله في مواقيت ضعفه، وأنه لو جرب ورفض وسحب قدمه من مستنقع المعتقد القديم الذي يقيَّده لتبيَّن له وَهانته وضعف قيده وسهولة الفرار.
ولكن هل يجرؤ الفيل أن يجرب رغم أنه لم يزل محتلًّا بالخوف والعجز القديم؟!
التعافي للشجعان؛ والشجاعة ليست في عدم الخوف، وإنما في اتخاذ القرار وفعل الفعل رغم الخوف.. أن تقدم على الأمر ورجلاك ترتعشان وقلبك يرتعد ولكنك تفعلها.
المرحلة الثالثة والرابعة.. وضع الحدود واستعادة الذات
"لا تُضيّع عمرك لتثبت لهم أنك ناجح، أخبرهم أنك فاشل وسيصدقونك فورًا، ثم عش حياتك على طريقتك وبأسلوبك، هذا هو النجاح الحقيقي.
جاك نيكلسون
أن ذلك الغضب المتحرر داخلنا هو ضرورة لكي يدلف كل منا نحو الخطوة الثالثة.. لا ينبغي أن تخشى الغضب أو نستقذره؛ فإن أحد الآثار المترتبة على الإساءة هي الخوف من المشاعر وتجنُّبها.
كانت مشاعرنا تعتبر نقصًا ودنسًا؛ "بطل عياط".. "بطلي دراما".. "كفاية كآبة".. "متخفش.. خليك رجل"، لذا كبرنا ونحن نظن أن المشاعر نقص والسماح بوجودها ضعف ومخاطرة! وأن وجود المشاعر ينبغي أن يتم وادُه في البداية قبل أن يتحول إلى كارثة، قبل أن تغمرنا المشاعر ولا نستطيع التحكم بها.
لذا كنا نهرب من الغضب، ونكتم الحزن، ونخشى القلق، فلم تكن مشاعرنا إلا لتتضاعف قسوتها حين نضيف إليها الرفض.. فأكون حزينًا وأحزن لكوني حزينًا، فأحمل حزنًا مركبًا، ويصيبني القلق فأقلق أكثر لكوني أشعر بالقلق، وما الذي يمكن أن يؤدي إليه قلقي، وكيف يمكن أن ينتهي، فتتضاعف شدته، وأكون غاضبًا لرفضي ما حدث، ثم أضيف للأمر رفضي لكوني غاضبًا فيزداد غضبي ويتركب: غضب مما حدث، مضافًا إليه غضبي من ذاتي لأني غاضب!
لذا فقد علمتنا تجاربنا أن قبول المشاعر هو الخطوة الأولى نحو عبورها بأريحية ومفتاح التعامل معها وإدارتها، وأن رفضها يورطنا أكثر ويغمرنا بالمزيد، ويؤدي لعدم القدرة على الإدارة.
وسيبقى المؤذي منطقة عجز، فقد نجد أنفسنا نتحلى بالقوة والثبات أمام الجميع، وربما نتمكن مع الوقت من تحمل النقد والصراعات والتعايش مع خذلان التوقعات من الآخرين إلا في تلك المساحة الشائكة.. مساحة الوالدين، يبقى لهما تأثير ضخم علينا وسطوة استثنائية على نفوسنا.
نعترف بذلك الواقع الطبيعي ولا بأس، فأنت لست ضعيفًا حين ترتبك هناك أمامهما، ولست أسيرًا لهما حين لا تزال تفاعلاتك مع أي منهما كفيلة بالغوص لتلك الدرجة وذلك العمق من التأثير عليك، ولن يحميك عن مثل تلك الربكة ومن التعرض للمزيد من الإيذاء إلا وضع الحدود معهما بكل وضوح وصرامة رقيقة.
كم نحلم بيومٍ يُصبح الإنسان منا حرًّا مسؤولًا عن ذاته وخياراته، لا مملوكًا نسبيًّا لأحد، ولا مشروعًا لاستكمال حياة منقوصة لأبيه، أو تفريغًا لإحباطات أحلامٍ لم تكتمل لأمه، أو تصديرًا لخيبة أمل أسرة لم تحقق طموحها يومًا.
كم نتمنى قريبًا سقوط (الولاية النفسية) للأهل، و(الوصاية) المتقنعة بقناع (الرعاية) والمتدرعة وهمًا بدروع (المسؤولية)، والمتترسة كذبًا بحصن (التكليف السماوي).
كم نتمنى أن تتوقف المُطالبة بأن تتحول حياتنا لمجرد تعوض تكميلي أو مشروع لتحصيل "مواصفات قياسية" لا تحقيقٍ لكينونتنا الفردية!
ولن نخوض في الحدود كثيرًا (لأنه ربما نفيض في الحديث عن الحدود في كتابٍ آخر)، ولكننا سنعرض لبعض الحدود وبعض الأمور المتعلقة بها:
- من حقك أن تقول (لا)، هذا الأمر لا يناسبني.. فإن رفض طلب ما لا يناسبك ليس عقوقًا ولا انتقامًا في العادة، فكيف في حالة النجاة من الإيذاء والتعافي من الإساءة؟!
أنت لست مطالبًا بالطاعة المطلقة الدائمة، والبر في أصله مساحة مغايرة للطاعة، فأنا يمكنني أن أرفض لك طلبًا وأبقى بك بارًّا، ويمكنني أن أقبل تنفيذ طلبك بعنف وازدراء وهجوم وأصبح أبعد ما أكون عن البر في حقك.. ذلك في الحالات العادية؛ فما بالك بضرورات التعافي، وظروف التعامل مع أب مؤذٍ أو أم مريضة أو عنيفة لفظيًّا أو شعوريًّا..
- حياتك ملكك، أنت من يحدد مساحات الناس فيها!
ويبدأ الألم حين نكف عن أن نكون (الفاعل) في حياتنا ونتحول إلى (مفعول به).. مجرد مستقبل لأفعالهم بنا.
يأتي الألم ويتجدد حين تتحول حياتنا ووجودنا إلى محض ثلة متراكبة من ردود أفعال، وليتها ردود على أفعالنا إنما فقط على أفعالهم في حياتنا!
تبدأ الحيرة حين تنفتح حياتنا "أرضًا" مشاعًا للعابرين، يحطون فيها متى شاؤوا ويرحلون وقتما أرادوا!
قد يختار البعض الانفصال المكاني للشعور بالسلام النفسي أو لحماية الذات (ويفضل هذا الأمر في حالة الأب المتحرش مثلًا)، وقد باتت مجتمعاتنا نسبيًّا أكثر تطورًا ولم تزل تمضي نحو تفهُّم أكبر لفكرة الشاب أو الفتاة الذي يحيا وحيدًا ويقرر الانفصال عن عائلته واتباع حياته الخاصة.
قد يختار البعض منا أن يؤكد عدم رغبته في التعرض لمواضيع بعينها، وعدم أحقيتهما في التطرق لمساحات معينة من حياته، ويختار ألا يسمح بشكل معين من الكلام السلطوي أو المسيء، ويؤكد على ضيقه به ورفضه له، وطلبه الواضح الكف عن تلك الأنماط من الإيذاء!
- لا يمكنني تغيير الشخص الآخر، ولكني يمكنني أن أغير من توجهاتي نحوه، ومن استجاباتي تجاه أفعاله، ومن طرق استقبالي لتواصلنا.
ومحاولة تغيير المؤذي أو المسيء غالبًا ما تبوء بالفشل، لذا ينبغي علينا أن نوفر طاقاتنا ونركز فقط على الشخص الوحيد الذي يمكننا حقًّا تغييره وهو أنفسنا!
* وينبغي أن تعرف هنا أن ردة الفعل تجاه وضع الحدود تمر بمرحلتين:
الأولى: إعلاء سقف الإيذاء والصدام أكثر بعد وضع الحدود، عبر التهديد والتوعد والاستعانة بأطراف خارجية لحثَّنا على معاودة الانصياع كأفراد العائلة أو الرموز الدينية وغيرهم، وقد تتوتر العلاقة في البداية للحد الذي تظن فيه أن الأمور قد خرجت عن السيطرة، فيزداد غضب الأب الغاضب، ويهدد بزمجرات فارغة ويتوعد ببراكين من الكراهية ويخوفك بالحرمان والحبس وغيره، ولكن ما أن نبقى على مواقفنا ونحتمل تلك المرحلة (التي تعد من أصعب المراحل مطلقًا حتى ندخل المرحلة الثانية).
المرحلة الثانية: التكيف:
الناس يتكيفون.. كل الناس يتكيفون في النهاية، وكثير من الآباء والأمهات المؤذيين هم مجرد فقاعات صوتية خاوية كوتد الفيل الصغير الذي حكينا عنه من قبل ولا يلبثون أمام ثباتنا أن يتحلوا بالمرونة ويدخلوا في مواءمات ومفاوضات هدفها الإبقاء على الروابط، أو حتى الإبقاء على صورة العائلة أمام المجتمع، (فكثيرًا منهم يكترث أكثر من اللازم بالصورة والمظهر أمام الناس).
ستجدهم في النهاية – للغرابة – يتكيفون على حدودك ويحترمون تفردك.
لا ننكر تسربًا بين الحين والآخر للصراع، أو لكلمات السخرية، أو ربما لعبارات اللوم (وندب الحظ العثر) وبعض عبارات التخويف من نهاية الطريق، ومن (دماغك اللي مودياك في داهية)، ولكن في النهاية ستحصل على حريتك في مرحلة التكيف مع حدودك، ستكون وللمرة الأولى في حياتك مباحًا لك أن تكون نفسك ولو انتزاعًا.. وللمرة الأولى سيكون لكينونتنا الخاصة الحق في الظهور والوجود!
وتلك هي بداية مراحل السلام..
للاطلاع على الجزء الأول:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-1/
للاطلاع على الجزء الثاني:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-2/
للاطلاع على الجزء الثالث:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-3/
للاطلاع على الكتاب بأكمله: