أسماء بنت أبي بكر "أجدع" مني
دائمًا ما كان أبي ــــ رحمه الله ـــ ينعتني منذ الصغر بكلمة "جدعة" وكان يقولها لي على نحوٍ يُشعرني بالفخار والاعتداد بالنفس، وكان وصفه يستوقفني كثيرًا فأتساءل في نفسي ماذا يعني؟ ولأنه يصعب على الطفل إدراك المعاني المجردة رحت أتتبع المواقف التي يصفوني أبي فيها بــ "الجدعنة" عساني أن أفهم معناها، فرصدت بعض المواقف مثل تدويني وأنا صغيرة بخطي "المنمنم" أسماء من يتصلون به هاتفيًا وكانوا كثيرين، بل وكنت أكتب رسالة المتصل وأقرأها عليه عندما يعود فيكافئني على الفور بكلمة "جدعة". وكان رحمه الله يطلب مني أن أذكره بأمور في مواعيد محددة وكان إذا أتممت المهمة منحني اللقب فأنتشي، كما كنت أحظى به أيضًا عندما أحكي له عن حواراتي مع صديقاتي وردودي عليهن إذا تناولنا موضوعًا من الموضوعات.
وقد انتهيت إلى أن كلمة "جدعة" تُطلق على الشخص الذي يُعتمد عليه والذي يُحسن التصرف.
ولم يكن أبي يشعرني بالفخار والاعتداد بالنفس فقط عندما ينعتني بـ "الجدعة" بل كنت أشعر كما لو أنه لا يوجد من هو "أجدع" مني إلى أن درست في الصف الأول الإعدادي قصة "أسماء بنت أبي بكر" فتأثرت بها أيما تأثر واستحوذت على انتباهي طويلًا فقد رأيت أنها شخص يُعتمد عليه وأنها كانت قادرة على مواجهة أصعب المواقف بحسن تصرفها فسارعت إلى إبلاغ أبي: "على فكرة أسماء بنت أبي بكر طلعت أجدع مني، وأنا مبسوطة جدًا بأن اسمي "أسماء" فضحك أبي وضمني إليه مقهقهًا وهو يقول: "ربنا يبارك فيك".
لقد استوقفتني شجاعة أسماء بنت أبي بكر الفائقة أثناء الهجرة النبوية عندما واجهت بصمود وجسارة أبا جهل الذي لطمها فشق أذنها وسقط قرطها لتخبره بمكان أبيها وصاحبه ومع ذلك لم تخبره.
كما أكبرت فيها ذهابها وعودتها ليلًا، وهي حامل في شهرها التاسع في ابنها عبدالله، مع أخيها عبدالله لتحمل ما يحتاج إليه الرسول وأبوها، ثم شقها نطاقها لتربط به الزاد والماء.
وكانت مثلًا أعلى لي في قوة الإيمان إذ كانت على استعداد بالتضحية بأغلى الناس ابتغاء مرضاة الله، فقد أتت أمها "قُتَيْلَة" إلى المدينة، وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية ولا تزال على الشرك، وقد حملت لابنتها زبيبًا وسمنًا وطحينًا وما إلى ذلك كهدية فأبت أن تقبلها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة – رضي الله عنها – تقول لها سلي رسول الله في أمر أمي وما تحمل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخلها بيتها وتقبلْ هديتها.
فأنزل الله في ذلك الآيات التالية:
(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٨﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٩﴾).. سورة الممتحنة.
وقصة أسماء – رضي الله عنها- مع ابنها عبدالله بن الزبير بن العوام فاقت كل وصف؛ إذ علت فيها قوة الإيمان وصدق العزيمة، وعزة النفس المؤمنة، والتسليم لأمر الله، والتضحية بكل غالٍ وعزيز في سبيل المحافظة على العقيدة الصحيحة ونصرة دين الله، والموت في سبيله.
وهل هناك من هو أغلى من ابنها وفلذة كبدها؟!
لقد كانت أسماء في أمس الحاجة إلى ابنها بعد الهرم والضعف والوهن وفقد البصر عندما حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي قائد جيش الخليفة عبدالملك بن مروان بعدما ظل يحاربه طويلًا وهو صامد وحين قابلها في وداعهما الأخير سألته متعجبة: أوَ تستسلمُ؟! يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وتدعو إلى حق، فأصبر عليه، فقد قُتل أصحابك عليه، وإن كنت أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من معك، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة سيف في عزٍّ خير من ضربة سوط في مذلة.
قال عبدالله: أخاف يا أماه إن مت أن يمثلوا بجسدي.
فقالت أسماء كلمتها الخالدة: (لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها.)
وقد عبَّر مصطفى لطفي المنفلوطي- رحمه الله- عن جمال شخصية أسماء وروعتها في أبياته الرائعة:
إن أسماء في الورى (1) خيرُ أُنثى صنعت في الوداع خير صنيعِ
جاءَها ابن الزبيرِ يسحبُ دِرعاً تحتَ درعٍ منسوجةٍ من نجيعِ (2)
قال: يا أُمُّ قد عييتُ بأمري بين قتلٍ مُرٍّ وأسرٍ فظيع
خانني الصحبُ والزمان فما لي صاحبٌ غيرُ سَيفي المطبوعِ
وأرى نجميَ الذي لاحَ قبْلاً غابَ عني ولم يَعد لِطلوعِ
فأجابت والجفن قفر (3) كأن لم يك من قبلُ موطناً للدموع
لا تسلم إلا الحياة وإلا هيكلاً شأنه كشأن تلك الجذوع
مت هُماماً (4) كما حييتَ هماماً وأحيَ في ذكرِكَ المجيدِ الرفيعِ
ليس بين الحياةِ والموت إلا كرةٌ (5) في صفوف تلك الجموع
ثم قامت تضمه لوداعٍ هائل ليس بعدَهُ من رُجوع
لمست دِرعه فقالت لعهدي بك يا ابن الزبيرِ غيرَ جزوع
إن بأس القضاءِ في الناس بأسٌ لا يُبالي ببأس تلك الدروع
فنضاها (6) عَنهُ وفرَّ إلى الموتِ بدرعٍ من الفخارِ منيعِ
وأتى أمه النعي فجادَت بعدَ لأيٍّ (7) بدمعِها الممنوع
(1) الورى: الخلق، (2) نجيع: دم الخوف، (3) قفر: جف من الدموع، (4) الهُمام: الشجاع.
(5) كرة: الغداة والعشي، (6) أبعدها عنه، (7) لأي: شدة وجهد.
وبهذا أُفعمت نفسي إعجابًا بأسماء بنت أبي بكر حتى أصبحت أرد على من يسألني عن معنى اسمي فأقول: "كفى بالاسم فخرًا أن دُعيت به بنت أبي بكر رضي الله عنها".
للاطلاع على المزيد:
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/