كيف تنقذ "30 مليون كلمة" الطفل ؟
ثلاثون مليون كلمة تجعل الطفل ذكيا
الطفل والقدرةُ على التحدثِ
منذ عدةِ سنوات دخلتُ محلَ بقالةٍ كبيرًا (سوبر ماركت) أترددُ عليه دائمًا، وإذا بي أرى لأولِ مرة طفلةً في نحو العاشرةِ تقفُ بجوارِ والدِها صاحبِ المحلِ جالسًا على مقعده لتحصيلِ النقودِ، وكعادتي في مبادرةِ الطفلِ بالحديثِ معه لأسعدَ بالتضاحكِ معه فأنسى كلَّ همومِ الدنيا عندما أدعمُه بكل ما أستطيعُ فتنتابني نشوةٌ يصعبُ عليّ وصفُها لكن مجرد تذكرِها يجلبُ لي السعادةَ، إلا هذه المرة فقد شعرتُ بالمرارةِ وانتابتني شفقةٌ عميقةٌ إلى درجةٍ ذرفتْ دموعي عندما حاولتُ التحدثَ مع الطفلةِ فلم تردُ علىّ إلا بابتسامةٍ زادتني إصرارًا على استنطاقِها، وقد نهرها والدُها لترد، ومع ذلك لم تنطق ببنتِ شفةٍ، فما كان من والدها إلا أن قال لي كنوعٍ من المجاملةِ: "سيبك منها يا أستاذة دي حمارة"، فرجوته ألا ينعتَها بذلك، وعقبتُ في نفسي: "ليتك علمت أنك بذلك لا تجاملني بل توجعني بإهانتك إياها"
وما كان مني إلا أن لاطفتَها وسألتَها عن اسمِها، فأجابتْ أخيرًا: "تي تي"، فسارع أبوها بتصحيحِ الاسمِ وقال: "زيزي"، وفرحتُ بأن استرسلتْ في الحديثِ معي لكنني تألمتُ؛ لكونها لا تكاد تنطق حرفًا واحدًا على نحوٍ صحيح فضلًا عن تعثرِها في تكوينِ جملةٍ مفيدةٍ فأثارتْ تعاطفي لدرجةِ أنها لم تغبْ عن ذهني حتى بعدما تركتْ المحلَ، بل إن صورتَها ظلتْ عالقةً بذهني طويلًا، فقد أثارتْ لدي تساؤلاتٍ مُلحةً: ما الذي أصابَ هذه الطفلة فمنعَها من نطقِ الحروفِ كما ينبغي؟ ما الذي أعاقها عن تكوينِ جملٍ مفيدةٍ ذاتِ معنىً على الرغم من أنه لم يبد عليها أيُّ علاماتٍ جسديةٍ تدلُ على إعاقتِها الذهنيةِ؟
ثلاثون مليون كلمة تنقذ طفلك من التقزم
ورحتُ أبحثُ عن الأسبابِ بالقراءةِ والاطلاعِ، وقد تزامنَ البحثُ عن إجاباتٍ لتساؤلاتي وانشغالي بحالةِ "زيزي" مع موقفٍ حدثَ في العملِ، حيث طُلبَ مني أن أتعاونَ مع إدارةٍ أخرى لترجمةِ ما تتولى تصميمَه مجموعةٌ من شبابِ الخريجين لموادَّ تعليميةٍ مُصممةٍ لبرنامجِ تعليمِ إلكتروني، وكانوا يراسلونني باللغة الإنجليزية لكنني كنتُ مع الأسفِ لا أفهمُ مقاصدَهم على الرغم من إجادتي الإنجليزيةَ، فقد كانتْ لغتُهم مهلهلةً، وفضلًا عن ذلك فعندما كنتُ أحاورُهم للتوصلِ إلى مقاصدِهم كنتُ ألاحظُ أن لغتَهم مزيجُ من العربيةِ والإنجليزيةِ وأنها لا تحملُ في الغالبِ دلالةً مفيدةً إلا إذا أسعفتَهم بما فهمتُه منهم ضمنيًا، وقد تعرضتُ لهذه الواقعةِ في مقال: "العربية لغتنا الأم"، لكنني وجدتُ بعد الإمعانِ في البحثِ أن الأمرَ أبعدُ من الدفاعِ عن اللغةِ الأمِّ لأنه يطالُ قدرةَ المخِ على إنتاجِ جملٍ مفيدةٍ وهذه أكبرُ مأساةٍ للإنسانِ؛ إذ يعجزُ عن التعبيرِ عما يودُ التعبيرَ عنه.
وقد دفعني ذلك كلُّه إلى البحثِ الدءوبِ في مجالِ اللغةِ وعلاقتِها بمخِ الإنسانِ وتتبعتُ سلاسلَ من الكتبِ والمقالاتِ والأبحاثِ إلى أن وصلتُ إلى كتابِ "ثلاثون مليون كلمة" الذي أجابَ عن تساؤلاتي حولَ مشكلةِ "زيزي" على وجه الخصوص، فقد أثبتتْ فيه المؤلفةُ وهي جراحةٌ متخصصةٌ في زراعةِ القوقعةِ لينعمَ الأطفالُ الصمُّ بالسمعِ – أن ذكاءَ الشخصِ أصلُه نمو اللغةِ في مخِه وهو في مرحلةِ الطفولةِ المبكرةِ وذلك بالتحدثِ معه وتعرضِّه للمزيدِ والمزيدِ من الكلماتِ، وأكدتْ أن العاملَ الأساسي الذي يحددُ مسارَ تعلمِّ الطفلِ هو البيئةُ اللغويةُ المبكرةُ، من حيث عددُ الكلماتِ التي يتحدثُ بها الوالدان وطريقةُ التحدثِ مع الطفلِ فكلما عاش الطفلُ في بيتٍ يكثرُ فيه تحدثُ الوالدين كان تحصيلُه الدراسي أعلى، لكن الأمرَ لا ينتهي عند عددِ الكلماتِ، فعلى الرغم من أهمية عددِ الكلماتِ التي يسمعُها الطفلُ فإن أساليبَ الأمرِ والنهي والتعنيفِ تعوقُ قدرتَه على اكتسابِ اللغةِ.
وهنا أدركتُ أسبابَ مشكلةِ "زيزي" التي لاحظتُ انتشارها، ومن ثم رأيتُ أن أنقلَ هذا الكتابَ إلى العربيةِ، وتمنيتُ لو تنشره جهةٌ قوميةٌ، وبالفعل قدمتُه للمركزِ القومي للترجمةِ بعرضٍ مستفيضٍ أشادتْ به لجنةُ النشرِ فوافقتْ على نشرِه، وها هو الكتابُ بين أيدينا بعد أن نشرَه المركزُ والحمد لله.
تنمية مخ الطفل بالكلمات
لم أكن أتصورُ يومًا أن لكلمة " تكبير" المخ أساسًا علميًّا، فبإمكانِ كلِّ أبٍ وأمٍّ فعلِ ذلك لطفلهما بدونِ أدنى تكلفةٍ؛ إذ ثبتَ علميًا أن التحدثَ إلى الطفلِ منذ المولدِ حتى سنَّ الثالثةِ كفيلٌ بزيادةِ عددِ خلايا مخِ الطفلِ ومعدلِ ذكائِه وتحصيلِه الدراسي. فالكلماتُ بالنسبةِ للمخِ كالغذاءِ بالنسبةِ للعضلاتِ وكلما تغذتْ العضلاتُ نمتْ وإن لم تحصلْ على الغذاءِ الكافي تقزمتْ وكذلك المخِ إذا لم يتعرضْ الطفلُ إلى سماعِ الكلماتِ وخاصة حديثَ الأبِ والأمِّ أو من يقومُ برعايتِه فسوف يتقزمُ مخُه، وهو ما لحظتُه على "زيزي".
التوقيت عامل جوهري في نمو مخ الطفل
ويتناولُ هذا الكتابُ إثباتَ هذه الحقيقةِ العلميةِ، فكلنا يولد بقدرةِ مئةِ مليارِ خليةٍ عصبيةٍ لا فاعليةَ لها إلا إذا كان بينها ترابطٌ، فإن لم يكن ثمة ترابطٌ صارت كأعمدة الهواتفِ القائمةِ بذاتِها بدون أسلاكِ توصيلِ. وعندما تتصلُ هذه الأسلاكُ على النحوِ الأمثلِ تنتقلُ إشاراتٌ بسرعةٍ فائقةٍ من خليةٍ عصبيةٍ إلى أخرى فيعملُ المخُ على نحوٍ مذهلٍ. لكن الأمرَ كلَّه، مع الأسف، متوقفٌ على التوقيتِ.
أهمية التحدث إلى الطفل الرضيع
وتشيرُ الكاتبةُ إلى الأهميةِ القصوى للتحدثِ إلى الطفلِ الرضيعِ، فلك أن تتصورَ يا قارئي العزيز تأثيرَ عبارةِ الأمِّ "مين حبيب ماما؟" لطفلِها الصغيرِ بطريقةٍ حنون عاليةِ النبرةِ في صوتٍ منغَّم على مخِ الطفلِ؛ إذ تساعدُه على تحليلِ الصوتِ والالتزامِ باللغةِ التي سوف يستخدمُها. وعلى الرغم من أن العبارةَ قد تبدو تعبيرًا عن حبِ الأمِّ فإن التحدثَ إلى طفلِها الرضيعِ يساعدُ مخَه في فهمِ الأصواتِ التي يمكن تمييزُها بوضوحٍ عن غيرِها بسهولةٍ مما ييسرُ فهمَ هذه الأصواتِ واكتسابِها.
علاقة عقلية النمو بالتحصيل الدراسي لدى الطفل
ويعرضُ الكتابُ لحركةِ عقليةِ النمو التي تعدُ ثورةً للفكرِ ذاتِ أثرٍ بالغٍ في مجالِ التعليمِ. وتقولُ البروفيسورة كارول دويك رائدةُ حركةِ عقليةِ النمو إنه بدلًا من أن نغرسَ مبدأَ المُطلقِ فيما يخصُ القدرات، يتوجَّبُ علينا كآباء ومعلمين توليدُ المبدأِ الذي يقول إن المجهودَ هو العاملُ المحوري في التحصيل؛ ذلك أن الاستسلامَ لا الافتقارَ إلى القدرةِ عادة ما يكونُ السببَ في الفشل.
ما الطريقة المثلى لامتداح الطفل؟
وقد نقضتْ البروفيسورة كارول دويك طريقةَ مدحِ الطفلِ بما ليس فيه، على أملِ أن يمتلكَ الصفةَ المرجوةَ عندما ننعتُه بها، بأن يُمتدَح الطفلُ لذكائه فيتولدُ لديه "الاعتقادُ بأنه ذكي"، الأمرُ الذي يُرجى منه تحفيزُه على التعلم. وأضافتْ: "ما لم يتمَّ التعاملُ مع المدحِ بشكلٍ سليمٍ، فسوف يترتبُ عليه أثرٌ سلبي، أو نوع من التخديرِ الذي يجعل من التلميذِ شخصًا سلبيًا يعتمدُ على آراءِ الآخرين بدلًا من أن يتخذَهم أداةَ دعمٍ". لذلك فلا بد من تعزيزِ التصميمِ بدلًا من الاعتمادِ على القدرةِ الفطريةِ، والأفضلُ للطفلِ أن يشعرَ حيالَ نفسِه عندما تواجهه عقبةٌ بقدرته على إيجادِ طريقةٍ للتغلبِ عليها بألا يستسلمُ، وهو ما يسمى بـــــ "الجَلَدِ" أي الصمودِ والإصرارِ على الرغم من الصعوباتِ. فمن المرجح أن الطفلَ الذي يتمتعُ بعقليةِ النمو يثابرُ عندما يتعرضُ للفشل؛ لكونه يعتقد أن الفشلَ لا يمثلُ حالةً ثابتةً.
ومن أهم ما عرضتْ له الكاتبةُ مدحُ الطفلِ وأنماطُه، وأن ثمة مدحًا قائمًا على الشخصِ وآخرَ قائمًا على التصرفِ. وقد وُجد أن الطفلَ الذي له عقليةٌ ثابتةٌ، والذي يُنسبُ إلى المدحِ القائمِ على الشخصِ، أكثر تعرُّضًا للاستسلام عندما تتأزم الأمور، والأخطرُ من ذلك، أنه أكثرُ تعرُّضًا لتفاقمِ الفشلِ من خلالِ الاستمرارِ في الأداءِ السيء بعد الفشلِ. كما أنه أكثرُ تعرُّضًا للكذبِ بشأنِ التحصيلِ والإنجازِ حتى يُظْهِر نفسَه "أذكى"، حيث إن اعتقاد البعض بكونه "ذكيًّا" يمثل جزءًا مهمًّا من شخصيته.
ما تأثير الكروب والضغوط على الطفل؟
ومن بين ما تناقشه الكاتبةُ تأثيرُ الكروبِ والضغوطِ على الطفلِ، فعلى الرغم من أن الأطفالَ كلَّهم سريعو التأثرِ فقد بينتْ الإحصائياتُ أن الأطفالَ الذين يولدون في فقرٍ، خاصةً الذكورَ منهم، معرضون للخطرِ لعدةِ أسبابٍ، منها الفقرُ وما يصاحبُه من فقدانٍ للأملِ فضلًا عن ظروفِه المُعقدةِ التي تتسببُ في الكروبِ والضغوطِ. فضلًا عن أن البيئاتِ التي يعيشُ فيها الفقراءُ غالبًا ما يعمُها مستوى عالٍ من الكروبِ والضغوطِ مع احتمالِ سهولةِ أن تنشبَ أعمالِ عنفٍ.
وعلى الرغمِ من كونِ الكروبِ والضغوطِ لا تخلو منها حياةُ البشرِ كلِّهم، بمستوياتٍ منخفضةٍ من وقتٍ لآخرَ، وأنه قد يكونُ لها تأثيرٌ إيجابي فإن الطفلَ الذي يتعرضُ لكروبٍ وضغوطٍ سامةٍ مزمنةٍ يلتحقُ بالحضانةِ وهو محملٌ بمشكلاتٍ في التنظيمِ الذاتي والوظائفِ التنفيذيةِ في الواقع، تلك المشكلاتُ التي غالبًا ما تصاحبُه على مدى حياتِه الدراسيةِ والمهنيةِ فيما بعد. وتعرضُ الكاتبةُ أسبابَ حدوثِ ذلك باستفاضةٍ.
وسأتناولُ أغلبَ موضوعاتِ الكتابِ باستفاضةِ في سلسلةٍ من المقالاتِ مع تناولِ أسبابِ الصعوباتِ التي تواجه من لم يستطعْ التعبيرَ بلغةٍ سليمةٍ عما يودُ التعبيرَ عنه كما لاحظتُ من مجموعةِ شبابِ الخريجين وغيرهِم من أنهم يتعثرون في تكوينِ جملةٍ مفيدةٍ متماسكةٍ بلغةٍ واحدةٍ، وأن لغتَهم ما هي إلا مزيجٌ من اللغةِ العربيةِ والإنجليزيةِ.
وأخيرًا، أودُ أن أضيفَ أن كتابَ "30 مليون كلمة" وما به من برامجِ تأهيليةٍ لكل من الأبِ والأمِّ يعد منهجًا تربويًا جديرًا بتنشئةِ طفلٍ يستطيعُ تحقيقَ أقصى قدراتِه العقليةِ فضلًا عن تنعمِه بنفسٍ سويةٍ.
لمزيد من المقالات من هنا