طغيان الانتصار للرأي وليس للحق
ألا تتفقُ معي يا قارئي العزيز على أن عقولنَا قاصرةٌ ولا يسعنُا الإحاطةُ بكلِ شيء؟ أظنُ أنه ربما تجسدَ لك المعنى إذا نظرتَ إلى كرةٍ ثابتةٍ، فهل تستطيعُ رؤيةَ كلِّ جوانبهِا؟ بالطبعِ لن ترى إلا الوجهَ الذي أمامك، لكن يمكنك أن ترى وجهًا آخر إذا بذلتَ مجهودًا فتحركتَ من مكانك؛ لكن أن تحيطَ بكل الأوجه في وقتٍ واحدٍ فهذا مُحالٌ، وهو أكبرُ دليلٍ على القصورِ.
وإذا فرضنا أن الحقَ أشبه بالكرةِ الثابتةِ فمُحال أن يرى الإنسانُ كلَّ جوانبهِا دفعةً واحدةً، والحقُّ هو الشيءُ الثابتُ الذي يهفو إليه جميعُ الناسِ، حتى أصحابُ الباطلِ أنفسهُم. وإذا أراد الشخصُ أن يتعرَّفَ إلى الحقِّ فعليه أن يبذل مجهودًا قدرَ استطاعتِه للإحاطةِ به، أما أن يكتفي بالوجه الذي يراه ويظلَ يدافعُ عنه وينتصرُ له فسوف يألفُه إلى درجة الكَلَف به؛ ومن ثم سيصاب بعمى البصيرةِ الذي يحُولُ دون رؤيتِه الحقَّ.
وإنني أرى أن من مظاهرِ تخلُّفِ المجتمعِ طغيانَ الانتصارِ للرأي، لا للحقِّ حيثما كان؛ فتجدُ أنه عندما تنشبُ مشكلةٌ أو تُثار مسألةٌ أو قضيةٌ فكريةٌ ينبري كل فرد من المعنيين ليقولَ رأيه في أسبابِ نشوبهِا، ويتطوع بتقديم طرقٍ لحلِّها، وعندما تظهرُ حلولٌ أنجعُ يستجمعُ ملكاتِه لمحاربتِها فقط لمجردِ إثباتِ صحةِ رأيه؛ فينشبُ صراعٌ قُوامُه إثباتُ ما يتعصبُ له من رأيٍ؛ ومن ثم يتوه الهدفُ الأساسي وهو إيجادُ حلٍ للمشكلِة، فيضيعُ الوقتُ ويتبدَّدُ المجهودُ وننكفئ على المعضلةِ ونقفُ عندها حتى تصبحَ حجرُ عثرةٍ أمام تقدمنا.
وينسحبُ هذا على القضايا الفكريةِ فتجدُ السوادَ الأعظمَ من المهتمين بمسألةٍ ما ينشغلُ كلٌ منهم بإثبات ما يرى؛ فيستحبُ الوقوفَ حيث ثَبَتَ على تحملِ مشقة الانتقالِ والخوضِ في رحلةِ البحثِ عن الحقِ التي قد تتبدَّى أثناءها حقائقُ جديرةٌ بأن تُغيِّر رأيه.
ومن أسوأ أنماطِ طبيعةِ طغيانِ الانتصارِ للرأي أن تكون وراثةً عن الآباءِ أو أخذًا عن معلمٍ أو انجرافًا وراء تيارٍ عامٍ، فينشأ الشخصُ على تشبُّثِ الأبِ أو الأمِ برأيه، ثم تتجذَّرُ فيه عندما يلمسهُا في معلمِه أو يسمعهُا دونَ تدبرٍ من وسائل الإعلامِ؛ فيخرجُ للمجتمعِ غيرَ مستعدٍ لتمحيصِ شتى وجهاتِ النظرِ التي تساعده على تبيُّنِ الحقِ؛ ومن ثم ينكفئ كلُ شخصٍ على نفسِه ولا يعبأُ بتقدمه؛ لكونه استكانَ وارتاحَ إلى ما يراه، فيسهلُ تغلبُ الباطل على الحق لديه، ومن ثم يتخلفُ المجتمعُ كله.
على أن السببَ الرئيسي وراء انتصارِ المرءِ لرأيه هو غفلتُه عن قصورِ عقلِه وكونُه لا يستطيعُ الوقوفَ على الحق، وأن تنطمسَ بصيرتُه فيأخذَ كلَّ شيءٍ بالتسليمِ دونَ إعمالِ فكرٍ.
وأخيرًا، أودُّ أن أقول إن جوهرَ الفرقِ بين علمِ الجدلِ عند المسلمين واليونانيين والفلسفةِ التي عُرفوا بها هو أن المسلمين كانوا ينتصرون للحقِّ، في حين أن اليونانيين كانوا ينتصرون للرأي.
لذا فإنني أرى أن طغيانَ الانتصارِ للرأي وليس للحق هو أحدُ الأجوبةِ عن سؤال: لماذا نحن متخلفون؟!
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/lack-of-fear-of-allah/
https://asmaanawar.com/journey_to_my_website/
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/