قلم يفكر على الماشي (2)
يعني ايه إحساس؟
عندما قلتُ لابنِ أختي ذي السنواتِ الستِ ــــــــ والذي اعتادَ أن يقابلَني بالأحضانِ والضربِ معًا: "لقد أصبحتُ أتألمُ من ضربِكَ وأكادُ ألا أحتملَه؛ فقد كَبَرتَ ونمتْ عضلاتُك وثقُلتْ يداكَ ولولا إحساسي بأن ضربَكَ هذا نوعٌ من المحبةِ وأنه أسلوبُكَ في التعبيرِ عنها لضقتُ بك وانصرفتُ عنك، فأرجو منك أن تترفقَ بي بألا تستخدمَ هذا الأسلوبَ معي".
سكتَ قليلًا وقال: "ايه الإحساس ده؟ يعني ايه إحساس؟!".
فأجبتُه وأنا مبتسمة: "إنه من نِعْمِ اللهِ علينا، فكما أنعمَ اللهُ علينا بعقلٍ نفكرُ به، وهبَ لنا إحساسًا نستشعر به بواطنَ الأمورِ، حتى وإن تنافتْ مع ظواهرهِا، كإحساسي الآن مثلًا بأن ضربَك الذي يؤلمني يوافق محبتَك التي تسعدُني، أليس كذلك؟".
فرد عليّ: "صح.. بس أنا عايز يبقى عندي إحساس".
التشبُّث بالرأي نوعان
ثمَّةَ أشخاصٌ لا يقبلونَ في أحاديثِهِمْ الأخذَ والردَّ، ولا يُحبِّونَ الحوارَ، ولا يؤمنونَ بالتفاهُمِ، ومنهجُهُمْ في الحياةِ قائمٌ على المِزاجِ، ولا تسعُ عقولُهمْ سوى آرائِهِمْ المتكوِّنةِ وفقَ هواهُمْ، فيرونَ أفكارَهمْ صحيحةً وغيرَ قابلةٍ للنقاشِ، ولا يقبلونَ التفاوضَ أو التضحيةَ، فيتشبَّثونَ بآرائِهمْ علَى نحوٍ أعمَى.
وثَمةَ آخرونَ يكوِّنونَ آراءَهُمْ بناءً علَى منهجٍ، ويعتمدونَ منطقًا في تفكيرِهِمْ، ويحبُّونَ الحوارَ الذي قدْ يفتحُ أمامَهمْ آفاقًا وقدْ يصحِّحُ مفاهيمَ، وهمْ علَى علمٍ بمزاجِهِمْ فيتحكَّمونَ في تأثيرِهِ على آرائِهِمْ، فيبنونَ آراءَهمْ خطوةً بخطوةً إلَى أنْ يصلُوا إلى حدِّ الاقتناعِ الذي يعقبُهُ التشبُّثُ بالرأيِ، ولكنْ على نحوٍ بصيرٍ.
وشتَّانَ بينَ التشبُّثِ بالرأيِ على نحوٍ أعمَى وبينَهُ على نحوٍ بصيرٍ، فالأولُ تصاحبُهُ عقليةٌ متحجِّرةٌ غيرُ قابلةٍ للتنويرِ، والآخرُ تصاحبُهُ عقليةٌ متفتِّحةٌ على أتمِّ استعدادٍ للاستزادةِ والتنويرِ.
التشبُّثُ بالرأي والانتصارُ لهُ
رأيتُ بعدَما كتبتُ موضوعَ: "التشبُّثُ بالرأيِ نوعانِ" أنَّهُ لا بدَّ منْ توضيحِ الفرقِ بينَ التشبثِ بالرأيِ والانتصارِ لهُ، فإنَّني أرى أنْ الانتصارَ للرأيِ يعقبُ التشبثَ بالرأيِ على نحوٍ أعمَى، بأن يُكرِّسَ المتشبِّثُ برأيِهِ على هذا النَّحوِ كاملَ طاقتِهِ وجُلَّ حماسِهِ للدفاعِ عنْ رأيِهِ بلْ ويحاولَ بشتَّى السُبلِ إثباتَ صحتِهِ، فليسَ منَ المستبعدِ للمنتصرِ لرأيِهِ أنْ يُطوِّعَ الحقائقَ ويستعينَ بكلِّ ما أُوتِيَ منْ قوةٍ أو نفوذٍ لدعمِ رأيِهِ، بلْ وقد يكذبُ، كلُّ ذلكَ منْ أجلِ الانتصارِ لرأيِهِ.
ويُعدُّ الانتصارُ للرأيِ – فيمَا أَرَى – أحدَ مظاهرِ قلَّةِ الإيمانِ بقصورِ عقلِ الإنسانِ، فلوْ علمَ الإنسانُ أنَّ عقلَهُ مهما اجتهدَ في إعمالِهِ هوَ قاصرٌ، وأنَّ العلمَ المطلقَ عندَ الخالقِ وحدَهُ سبحانَهُ وتعالَى، لما تشبَّثَ بالانتصارِ لرأيِهِ، وكانَ الأَوْلى لهُ الانتصارَ للحقِّ وليسَ للرأيِ، وذلكَ بأنْ يسعَى وراءَ الحقِّ، ويُكرِّسَ لذلكَ طاقتَهُ وحماسَهُ وفوقَ كلِّ ذلكَ عقلَهُ.
وأخيرًا، أودُّ أنْ أقولَ إنَّ جوهرَ الفرقِ بينَ علمِ الجدلِ عندَ المسلمينَ واليونانيينَ والفلسفةِ التي عُرفوا بِهَا هوَ أنَّ المسلمينَ كانُوا ينتصرونَ للحقِّ في حينِ كانَ اليونانيونَ ينتصرونَ للرأيِ.
التفكير الحر
يقولُ الدكتورُ حسين فوزي: شتَّانَ بينَ حريةِ الفكرِ والتفكيرِ الحرِّ أي التفكيرِ المطلقِ الذي لا حدودَ لهُ؛ فحريةُ الفكرِ لَهَا علاقةٌ بالوضعِ السياسيِّ والاجتماعيِّ؛ وبالتالي لا بدَّ أنْ تكونَ لها حدودٌ سياسيةٌ أو اجتماعيةٌ، أمَّا التفكيرُ الحرُّ فهوَ الصفةُ في الذهنِ لا تعوقُهُ العوائقُ، يبحثُ دخائلَ الأشياءِ ويناقشُ كلَّ شيءٍ، حتَّى يبلغَ درجةً منَ الاقتناعِ، بلغَهَا نتيجةَ البحثِ لا نتيجةَ الوراثةِ والتقاليدِ والتلقينِ، بلْ ما وصلَ إليهِ بقوةِ الحريةِ في هذا التفكيرِ الحرِّ. ويُعدُّ هذا التفكيرُ الحرُّ أداةَ إصلاحٍ في أيةِ حضارةٍ؛ تلكَ الأداةُ التِي تسمحُ بتصحيحِ الخطأِ الذي يعتوِرُ سيرَ أيِّ حضارةٍ منَ الحضاراتِ والعودةِ إلى الطريقِ السويِّ.
هذَا فِي الوقتِ الذِي ألمسُ فيهِ أنَّ كلًّا منْ حريةِ الفكرِ والتفكيرِ الحرِّ قدْ أُصيبَا فِي مجتمعِنَا بمقتلٍ على الرغمِ منْ أنَّ التفكيرَ فريضةٌ في الإسلامِ وهو من أميزَ خصائصِهِ، فالسوادُ الأعظمُ في مجتمعِنا يقتنعُ بما ورِثَهُ منْ أفكارٍ ولا يحيدُ عنِ التقاليدِ التِي درجَ عليهَا ويأخذُهُا على علَّاتِها، معَ الأسفِ، بلْ ينتظرُ ما يلقِّنُهُ بِهِ أيُّ شخصٍ قدِ اتخذَهُ إمامًا، معَ أنَّ (كلُّ امريءٍ بما كسبَ رهينٌ).
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/