غواية اللامعقول - قصة الغرام الفكري بالفاشية
بقلم: ريتشارد وولين
ترجمة: محمد عنانى
عنوان الكتاب الأصلي: (The Seduction of Unreason, The Intellectual Romance with Fascism from Nietzsche to Postmodernism)
من يخاف التنوير؟
لا شك أن من غرائب الفترة المعاصرة أن يجد تراث التنوير نفسه عرضة للهجوم لا من جانب المشتبه فيهم – الذين اعتدناهم – من المنتمين لليمين السياسى فقط بل أيضًا من جانب دعاة اليسار الأكاديمى، فعلى نحو ما ذكره أحد المعلقين الفطنين من عهد قريب، «تطور الهجوم على التنوير فأصبح يشبه الرياضة الدموية الفكرية التى توحدت فيها عناصر من اليسار ومن اليمين فى قضية مشتركة». وهكذا فإن إحدى غرائب زماننا أن نرى أن حجج مناهضة التنوير التى كانت من الامتيازات الخاصة لليمين السياسى قد كُتب لها عمر جديد بين ممثلى اليسار الثقافى، ومما يدعو إلى الدهشة أننا حين نفحص الدراسات المنشورة فى هذا الصدد نجد أن بعض أنصار «ما بعد الحداثة» يستندون بفخر إلى تراث مناهضة التنوير زاعمين أنه ينتمى إليهم، وتقول حجتهم إنه ما دامت الديموقراطية مسؤولة فى الماضى والحاضر عن شرور سياسية بالغة الكثرة، وما دام انتقاد الديموقراطية الحديثة قد بدأ بمناهضى الفلاسفة الفرنسيين، فلماذا لا نحشد حججهم القوية باسم البحث النقدى السياسى «بعد الحداثى»؟ ويقول أحد الدعاة البارزين للنظرية السياسية «بعد الحداثية» إن كل ما نحتاج إليه هو إلباس موقف معاداة التنوير لباسًا جديدًا أقدر على «الإفصاح عنه» (وهو زعم مصوغ بغموض متعمد) حتى نجعله قادرًا على الوفاء بغايات اليسار «بعد الحداثى». ومع ذلك فإن الداعين لصوغ مثل هذا التحالف الذى يناسب الظروف الراهنة بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف لا يكادون يقدمون ضمانات أو توكيدات بأن النتيجة النهائية لهذا الزواج السياسى ستؤدى إلى مولد حرية أكبر لا إلى إجهاض سياسى رهيب.
ومن العناصر الأساسية التى تقوم عليها هذه «التركيبة» الإشكالية من اليمين واليسار وجود فصل غريب من فصول تاريخ الأفكار، نرى فيه الأعداء المحدثين للفلاسفة الفرنسيين، مثل نيتشه وهايديجر، وقد أصبحوا الأصنام الفكرية المعبودة فى فرنسا فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وخصوصًا فى نظر أرباب «ما بعد البنيوية» مثل چاك دريدا Jacques Derrida، وميشيل فوكوه (Foucault)، وچيل ديلوز (Gilles Deleuze). ومن المفارقات أن اللامبالاة الساخرة بالعقل والديموقراطية التى كانت يومًا ما من خصائص الفكر الرجعى، قد أصبحت الزاد الذى يملأ جعبة اليسار «بعد الحداثى». وعلى نحو ما كرر مراقبو المشهد الفكرى الفرنسى الإشارة إليه، كانت ألمانيا على الرغم من خسارتها فى ميدان القتال قد انتصرت فى قاعات البحث الأكاديمى، وفى أماكن بيع الكتب، وفى المقاهى فى الحى اللاتينى. وفى أثناء موجة الهجوم على «الحضارة الغربية» فى أثناء الستينيات بأسلوب الفيلسوف الألمانى أوزڤالد شپنجلر Oswald Spengler [الذى أصدر كتابًا بعنوان تدهور الغرب نشر الجزء الأول منه عام ١٩١٨] وهو الهجوم الذى كان يقوده كبار ممثلى اليمين الفكرى الألمانى يومًا ما، عَبَرَتْ هذه الهجمة نهر الراين حيث وجدت تأييدًا جديدًا لها. ومن المفارقات أن المبادئ المناهضة للتنوير التى كانت محظورة اجتماعيًّا فى ألمانيا بسبب ارتباطها بالفاشية ارتباطًا لا لبس فيه ولا غموض – إذ كان نيتشه يُعتبر الفيلسوف الرسمى للنظام النازى ويتمتع من ثم بقداسة خاصة، كما كان هايديجر يعتبر، لفترة محدودة، أشد الفلاسفة الناطقين باسم النظام صراحة ووضوحًا – كانت، فيما يبدو، أفضل ما يعبر عن حالة التشاؤم الثقافى [أى Kulturpessimismus التى تترجم أحيانًا «باليأس الثقافى»] التى سادت بين المثقفين الفرنسيين خلال الفترة التى أعقبت الحرب، ومما زاد الطين بلة أن الهجوم الجديد على الفلسفة انطلق من وطن التنوير نفسه.
كان الهجوم على المذهب الإنسانى من خصائص المذهب البنيوى الفرنسى أيضًا، وكان ذلك التوجه هو الذى مهد الطريق من عدة زوايا لما تلاه من مبادئ «ما بعد البنيوية» ذات الطابع الراديكالى الأعمق، وقد عبر أحد النقاد تعبيرًا مناسبًا عما حدث قائلًا إن «البنيوية كانت حركة... قدمت الاتجاه العكسى، إلى حد كبير، لاحتفاء القرن الثامن عشر بالعقل، باعتباره مذهب أرباب التنوير الفرنسيين». وبهذه الروح كان أحد مؤسسى الحركة المذكورة. وهو كلود – ليڤى شتراوس Claude – levi Strauss يسعى للاستفادة من الأنثروپولوچيا فى تحقيق غايات النقد الثقافى. وقد اشتهر بأنه كان يعتبر المذهب الإنسانى فى الغرب مسؤولًا عن فظائع القرن العشرين، مثل الحرب الشاملة، والإبادة الجماعية، والاستعمار، والتهديد بالفناء فى حرب نووية، وكما قال فى مقابلة شخصية أجريت معه عام 1979: «إن كل المآسى التى عشناها، أولًا مع الاستعمار، ثم مع الفاشية، وأخيرًا مع معسكرات الاعتقال، كلها تشكلت لا من باب المعارضة أو التناقض مع ما يسمى المذهب الإنسانى... بل إننى أكاد أقول إنها كانت استمرارًا طبيعيًّا له». والواقع أن ليڤى – شتراوس كان يستبق مبدأ «ما بعد البنيوية» حين قال إن هدف العلوم الإنسانية «ليس تكوين مفهوم الإنسان بل إذابته». ولم يكن يفصل هذا القول إلا خطوة قصيرة عن المقولة المحتفى بها، وتتسم بروح «النيتشية الجديدة»، والتى قالها فوكوه عن «موت الإنسان» فى كتابه نظام الأشياء.
وفى الستينيات حل مذهب النسبية الثقافية بين كثير من المثقفين الفرنسيين محل الفضيلة الليبرالية التى تسمى «التسامح»، وهو المبدأ الذى ظل مرتبطًا بأعراف تفرض الاحترام الأساسى لوحدة الإنسانية، فإذا اجتمعت النسبية الأخلاقية بكراهية الغرب لذاته المستلهمة من مناهضة المذهب الإنسانى، وُلِدَتْ فكرةُ العَالَمِ الثَّالِثِ دون تمحيص، وهو التوجه الذى بلغ ذروته فى التأييد الحماسى من جانب فوكوه للثورة الإسلامية الإيرانية. فلما كانت «دكتاتورية الملالى» مناهضة للحداثة وللغرب ولليبرالية، فقد حققت تحقيقًا سلبيًّا عددًا كبيرًا من المعايير التى أصبح العالم الثالث يعتبرها «تقدمية» (أى إنها لم تحققها). وعلى غرار ذلك، كان رفض ليڤى– شتراوس التمييز بين اتجاهى الحداثة التقدمى واتجاهها الرجعى – مثل التمييز بين الديموقراطية والفاشية – باعتباره مؤشرًا على أحد أخطار البنوية، فما دام أرباب البنيوية يفضلون «النظرة البعيدة» أو «النظرة ذات المدى الزمنى الطويل» فإنهم كانوا يشبهون المناهضين القدماء للفلاسفة الفرنسيين فى الحط من قدرة الإنسان على الوعى وعلى الإرادة، بل كانوا يريدون أن التاريخ يمثل قَدَرًا غير عقلانى، لا يستند إلى علل أو أسباب، بل ينتمى سلفًا إلى عالم ما لا يفهم.
لم يحدث قط أن تخلى نيتشه عن مهام البحث الفلسفى الجاد، بل إن تلأملاته الفلسفية المذهلة يغذوها، إلى أعماقها، مبدئان سقراطيان جوهريان، يقول الأول إن الحياة إذا لم تُفحص غير جديرة بأن تُعاش، ويقول الثانى إن الفضيلة هى المعرفة ونحن نسلم بأن نيتشه كان يرفض رفضًا باتًّا رد فعل أفلاطون على أمثال تلك المعضلات الفلسفية (مثل نظرية الُمُثل، التى تقول إن كل ما يوجد فى الأرض نسخ شاحبة من «صور» (forms) سماوية مجردة)، ومع ذلك، فقد ظل نيتشه طول عمره مقتنعًا بأن الحكمة أو الحقيقة تمثل مفتاح ازدهار الإنسانية، وهذه عقيدة سقراطية جوهرية. وأما إدانته الشاملة للحداثة الأوروبية فلم تكن عدمية فى ذاتها، بل ولم يكن مذهبه المنظورى يتصل من قريب بمذهب النسبية الضحل، ولكن نيتشه كان يقصد بـ«إعادة تقييم كل القيم» أن يكون محطة على الطريق إلى مجموعة من المثل العليا للقيم التى تتسم بالصلابة والإيجابية والرفعة، ونحن نكتشف عند نيتشه صورة الاهتمام برفاهية «الروح» نفسها التى نجدها عند سقراط وأفلاطون، كما إن التمييز الأرسطى البالغ الأهمية بين «مجرد الحياة» و«الحياة الصالحة» يعنى أنه يقصد بالتعبير الأخير الحياة وفقًا لما تمليه الفضيلة فى مقابل مجرد حياة خالية من الغايات العليا ومن ثم فهى لا تزيد على مجرد «العيش»، وذلك تمييز يعتبر دافعًا لفلسفة نيتشه فى كل ثنية من أثنائها، إذا يقدم بيركوڤيتز ملاحظة صائبة تقول «يهدر المرء فرصة ذهبية إذا مر بفكر نيتشه دون أن يلاحظ حبه للحقيقة، وللشجاعة، وللخير الذى يبث الحياة فى الجهد العظيم الذى بذله حتى يعيش حياة خضعت للفحص، من خلال وصفة للحياة الفضلى».
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/