فبراير 28, 2023

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

تفسير الشعراوي- المجلد الثاني

أسماء راغب نوار | تفسير الشعراوي- المجلد الثاني

الشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي- المجلد الثاني

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴿٢٠٤﴾ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴿٢٠٥﴾ ) – سورة البقرة

يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية، وهذه القضية الوجودية هى أن كل عمل له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس فى الباطن، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن، فمن مصلحة الإنسان أن ينتمى هو والناس جميعًا إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهًا حكيمًا يعرف كل شيء عنا جميعًا.

فإذا كان عندك شيء لا أعلمه، وأنا عندى شيء أنت لا تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن ضروريات حياتنا أن نؤمن معًا بإله يطلع على سرائرنا جميعًا، وهذا ما يجعلنا نلزم الأدب؛ ولذلك قيل: «إن عَمّيْتَ على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء».

إذن فقضاء السماء وعلم الله بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها، لأنه هو الذى سيحمى كل واحد منا من غيره. وعندما ستر الله غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لأن النفوس متقلبة .فلو علمت ما فى نفسى عليك فى لحظة قد لا يسرك .وقد لا تنساه أبدًا ويظل رأيك فيَّ سيئًا، لكن الظنون والآراء تمر عندى وعندك وتنتهي. ولو اطلع كل منا على غيب الآخر لكانت الحياة مرهقة، والقول المأثور يذكر ذلك: «لو تكاشفتم ما تدافنتم».

إذن فمن رحمة الله ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه ،والحق يحذرنا ممن قال فيهم: «ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا» أى الذين يظهرون من خير خلاف ما يبطنون من شر، ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال:

على الذم بتنا مجمعين وحالنا *** من الخوف حال المجمعين على الحمد

أى لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذمًا، إنما كلنا مداحون حين يلقى بعضنا بعضًا كل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه. و«يعجبك قوله» فهل الممنوع أن يعجبك القول؟ لا، يعجبنى القول ولكن فى غير الحياة الدنيا، فالقول الذى يعجب هو ما يتعلق بأمر الحياة الآخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير.

وكفى بالذى يسمع من مادح له مدحًا، والمادح نفسه يُضمر فى قلبه كرهًا له، وكفى بذلك شهادة تغفيل للممدوح، بأنه يقول بينه وبين نفسه: «إن الممدوح غبي؛ لأنى أمدحه وهو مصدق مدحى له» إن الله سبحانه  وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظًا وفطنًا، ومن يقول لنا كلامًا يعجبنا فى الحياة الدنيا نتهمه بأن كلامه ليس حسنًا؛ لأن خير الكلام هو ما يكون فى الأمر الباقي.

ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للإمام جعفر الصادق يقول له:- لماذا لا تغشانا - أى لا تزورنا - كما يغشانا الناس؟ فكتب الإمام جعفر الصادق للخليفة يقول :أما بعد فليس عندى من الدنيا ما أخاف عليه، وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك، وأنت لا تعلم أن أول أناس لهم رأى سيئ فيك هم من يمدحونك.

«ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا» وهذه الآية نزلت فى الأخنس ابن شريق الثقفى واسمه أبىّ ولقب بالأخنس لأنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت إليهم، وكان ساعة يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر إسلامه ويلين القول للرسول ويدعى أنه يحبه، ولكنه بعد أن خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بزرع وحُمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحُمُر. والآية وإن نزلت فى الأخنس فهى تشمل كل مُنافق» .

«ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام» لا تقولوا الله« :يشهد»، وإنما هاتوا شهداءكم ليشهدوا على صدق قولكم؛ لأن معنى« الله يشهد» هو إخبار منك بأن الله يشهد لك. وأنت كاذب فى هذه، ولا تريد أن تضفى المصداقية على كذبك بإقحام الله فى المسألة.

وساعة تسمع واحدًا يقول لك :أُشهدُ الله على أنى كذا، فقل له: هذا إخبار منك بأن الله يشهد، وأنت قد تكذب فى هذا الخبر، أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ولا نقحم الله فى هذه الشهادة. «ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام» وألد الخصام هو الفاسق فى معصيته، ويقال: فلان عنده لدد أى له فسق فى خصومته، ويجادل بالباطل. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « إن أبغض الرجال إلى الله هو الألد الخصم».

يعنى المجادل بالباطل الذى عنده قسوة فى المعصية، فهو عاص وفى الوقت نفسه قاس فى معصيته .ولماذا هو ألد الخصام؟ لأن الذى يجابهك بالأمر يجعلك تحتاط له، أما الذى يقابلك بنفاق فهو الذى يريد أن يخدعك، وهذا عنف فى الخصومة، فالخصم الواضح أفضل لأنه يواجهك بما فى باطنه، لكن إذا جابهت الذى يُبطنٍ خصومته ويظهر محبته يكون قاسيًا عليك فى خصومته؛ لأنه يريد أن يخدعك ويُبَيّت لك.

«وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها» و«تولى»: انصرف أى يقول لك ما يعجبك، فإذا تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه، ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئًا آخر، من الولاية، ففيه "تولّى" من التَّولّى وهو الانصراف والإعراض، وفيه «تَولّى»  من الولاية.

«وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل»  كانت الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح، والفساد أمر طارئ من البشر. ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أى أمر إلا وللإنسان فيه دخل.

لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لأن الهواء لا تدخل للإنسان فيه، وبمقدار تدخل الإنسان يكون الفساد. لقد تدخلنا قليلًا فى المياه فجاء فى ذلك فساد، فلم نحسن نقلها فى مواسير جيدة فوصلت لنا ملوثة، أو زاد عليها الكلور أو نقص. وبقدر ما يكون التدخل يكون الإفساد، أما فى الزمن القديم فقد كان الإنسان يذهب إلى مصدر الماء المباشر فى الآبار ويأخذ الماء الطبيعى الذى خلقه الله بلا تدخل من الإنسان ولم يكن تلوث أو غيره.

إذن على مقدار وجود الإنسان فى حركة الحياة غير المُرشّدة بالإيمان بالله ينشأ الفساد، ولذلك كان لا بد له من منهج سماوى للإنسان، والكائنات غير الإنسان ليس لها منهج وهى مخلوقة بالغريزة وتؤدى مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يومًا عن ركوبك عليها، ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك، أو تستعين بها فى الحرث، أو الرى، حتى عندما تذبحها لا تمتنع عليك، لماذا؟ لأنها مخلوقة بالغريزة التى تؤدى بها الحركة النافعة بدون اختيار منها .وإذا امتنعت فى وقت فإنما يكون ذلك لأمر طارئ كمرض مثلًا.

لكن الذى له اختيار لابد أن يكون له منهج يقول له :افعل هذه ولا تفعل تلك. فإن استقام مع المنهج فى «افعل»  و«لا تفعل»  سارت حياته بشكل متوازن، لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: «وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها»، كأن الإفساد هو الذى يحتاج إلى عمل، اترك الطبيعة والمخلوقات كما هى تجدها تعمل فى انضباط وكمال على ما يرام.

إذن فالفساد طارئ من الإنسان الذى يحيا بلا منهج لأنه« إذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها» فكأن الأصل فى الأرض وما فيها جاء على هيئة الصلاح، فإن لم تزد الصالح صلاحًا فلا تحاول أن تفسده. قال تعالى:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿١١﴾ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴿١٢﴾ ---- سورة البقرة

ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الأرض تحتاج إلى حركتهم لإصلاحها، برغم أن الأرض بدون حركتهم صالحة؛ لأنهم لا يتحركون بمنهج الله.

إذن هذه الآية نفهم منها أن الإنسان إذا« تولى» بمعنى رجع أو تولى ولاية سعى فى الأرض ليفسد فيها؛ فكأن الفساد فى الأرض أمر طارئ وينتج من سعى الإنسان على غير منهج من الله. ومادام للإنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الاختيار، فإن لم يكن له منهج وسار على هواه فهو مفسد لا محالة.

وانظر إلى غباء الذى يفسد فى الأرض، هل يظن أنه هو وحده الذى سيستفيد فى الأرض، فأباح لنفسه أن يفسد فى الأرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة، فكما يُفسد لغيره، فغيره يفسد له، فمن الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن.

(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ ) – من الآية 205 سورة البقرة

والحرث له معنيان: فمرة يُطلق على الزرع، ومرة يطلق على النساء، المعنى الأول ورد فى قوله تعالى:

(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) – من الآية 78 سورة الأنبياء

فالحرث فى الآية معناه: الزرع، والزرع ناتج عن إثارة الأرض وإهاجتها. وعملك يا أيها الإنسان أن تهيج الأرض وتثيرها، وتأتى بالبذر الذى خلقه الله فى الأرض التى خلقها الله، وتسقيها بالماء الذى خلقه الله، وتكبر فى الهواء الذى خلقه الله، ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق - سبحانه - فيقول:

(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿٦٣﴾ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿٦٤﴾)  -- سورة الواقعة

والمعنى الثانى: يُطلق الحرث على المرأة فى قوله تعالى:

(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ) – من الآية 223 سورة البقرة

وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد ويقول سبحانه وتعالى:

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ) -- من الآية 223 سورة البقرة.

وأراد المتحللون الإباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة فى جميع جسدها، ونقول لهم لاحظوا قوله: "حرثكم" والحرث محل الإنبات، فالإتيان يكون فى محل الإنبات فقط، لا تفهمها تعميمًا وإنما هى تخصيص .ويتابع الحق وصف الذى يقول القول الحسن، ولكنه يسعى فى الأرض بالفساد فيقول: "ويهلك الحرث والنسل" والنسل هو الأنجال والذرية.

ويذيل الحق الآية:"والله لا يحب الفساد" أى أن الحق يريد منكم إن لم تدخلوا بطاقة الله التى خلقها لكم فكرًا وعطاء، فعلى الأقل اتركوا المسألة كما خلقها الله؛ لأن الله لا يحب أن تفسدوا فيما خلقه صالحًا فى ذاته.

وما سبق فى هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية فى أول عهدها، من الذين كانوا ينافقون واقعها القوى، فيأتون بأقوال تُعجب، وبأفعال تعجب من يُنَافَق. ونعرف أن النفاق كان دليلًا على قوة المسلمين، ولذلك لم ينشأ النفاق فى مكة، وإنما نشأ فى المدينة. فقد قال الحق:

(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) – من الآية 101 سورة التوبة

وربما يتساءل إنسان: وكيف تظهر هذه الظاهرة فى البيئة الإيمانية القوية فى المدينة؟ ونقول: لأن الإسلام فى مكة كان ضعيفًا، والضعيف لا ينافقه أحد، والإسلام فى المدينة أصبح قويًا، والقوى هو الذى ينافقه الناس.

إذن فوجود النفاق فى المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن الإيمان أصبح قويًا بحيث يدعيه من ليس عنده إسلام. وهؤلاء كانوا يقولون قولًا حسنًا جميلًا، وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلًا يُعجب من يراهم أو يسمعهم، ولكنهم لا يثبتون على الحق، فإذا ما تولوا، أى اختفوا عن أنظار من ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفرى، أو إذا ائتمنوا على شىء فهم يسعون فى الأرض فسادًا.

والآية هنا تتعرض لشىء يدل على فطنة المؤمنين، إنّ الآية فضحت من نافق .وكان الأخنس عمدة فى النفاق، وفضيحة المنافق بهذه الصورة، تدل على أن وراء محمد صلى الله عليه وسلم ووراء المؤمنين بمحمد، ربًّا يخبرهم بمن يدلس عليهم، وأيضًا ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل قول الحق:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّـهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿٢٠٦﴾) – سورة البقرة

ولا يقال له اتق الله إلا إذا كان قد عرف أنه منافق، وما داموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق. ونفهم من هذه الآية أن المؤمن كيس فطن، ولا بد أن ينظر إلى الأشياء بمعيار اليقظة العقلية، ولا يدع نفسه لمجرد الصفاء الربانى ليعطيه القضية، بل يريد الله أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة.

«وإذا قيل له اتق الله» فكأن المظهر الذى يقول أو يفعل به، ينافى التقوى لأنه قول معجب لا ينسجم مع باطن غير معجب، صحيح أنه يصلى فى الصف الأول، ويتحمس لقضايا الدين، ويقول القول الجميل الذى يعجب النبى صلى الله عليه وسلم ويعجب المؤمنين، لكنه سلوك وقول صادر عن نية فاسدة. ومعنى"اتق الله" أى ليكن ظاهرك موافقًا لباطنك، فلا يكفى أن تقول قولًا يعجب، ولا يكفى أن تفعل فعلًا يروق الغير؛ لأن الله يحب أن يكون القول منسجمًا مع الفعل، وأن يكون فعل الجوارح منسجمًا مع نيات القلب.

إذن فالمؤمن لا بد وأن تكون عنده فطنة، وذكاء، وألْمعِيَّة، ويرى تصرفات المقابل، لا يأخذ بظاهر الأمر. ولا بمعسول القول ولا بالفعل، إن لم يصادف فيه انسجام فعل مع انسجام نية. ولا يكتفى بأن يعرف ذلك وإنما لا بد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه حتى يقصر على المنافق أمد النفاق، لأنه عندما يقول له :يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف، ولعله بعد ذلك يرتدع عن النفاق، وفى ذلك رحمة من المؤمن بالمنافق .وكل من يرى ويلمح بذكائه نفاقًا من أحد هنا يقول له:"اتق الله"  فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له: "اتق الله" فإذا قال له واحد:"اتق الله" وقال له آخر :"اتق الله"، وثالث، ورابع، فسيعرف تمامًا أن نفاقه قد انكشف، ولم يعد كلامه يعجب الناس.

«وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم»، وتقييد العزة بالإثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير إثم، ومادام الله قد قال: "أخذته العزة بالإثم"، فهناك إذن عزة بغير إثم. نعم، لأن العزة مطلوبة للمؤمن والله عز وجل حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين:

(وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) – من الآية 8 سورة المنافقون

وهذه عزة بالحق وليست بالإثم. وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالإثم؟ ولنستعرض القرآن الكريم لنعرف الفرق .ألم يقل سحرة فرعون: فيما حكاه الله عنهم:

(بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴿٤٤﴾) – من الآية 44 سورة الشعراء

هذه عزة بالإثم والكذب.  وكذلك قوله تعالى:

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴿٢﴾) – سورة ص

وهى عزة كاذبة أيضًا أما قوله عز وجل:

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿١٨٠﴾) – سورة ص

فتلك هى العزة الحقيقية، إذن فالعزة هى القوة التى تَغْلِبٌ، ولا يَغْلِبه أحد أما العزة بالإثم فهى أنفة الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية. والحق سبحانه وتعالى يقول لكل من يريد هذا اللون من العزة بالإثم :إن كانت عندك عزة فلن يقوى عليك أحد، ولكن يا سحرة فرعون يا من قلتم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، أنتم الذين خررتم سُجَّدًا لموسى وقلتم:

(آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴿٤٨﴾) -- سورة الشعراء

ولم تنفعكم عزة فرعون؛ لأنها عزة بالإثم، لقد جاءت العزة بالحق فغلبت العزة بالإثم. لذلك يبين لنا الحق سبحانه وتعالى أن العزة حتى لا تكون بالإثم، يجب أن تكون على الكافر بالله، وتكون ذلة على المؤمن بالله.

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) -- من الآية ٥٤ سورة المائدة

وكذلك قوله الحق:

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ ) – من الآية 29 سورة الفتح

هذا دليل العزة بالحق، وعلامتها أنها ساعة تغلب تكون فى منتهى الانكسار. ولنا القدوة فى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى خرج من مكة لأنه لم يستطع أن يحمى الضعفاء من المؤمنين، وبعد ذلك يعود إلى مكة فاتحًا بنصر الله، ويدخل مكة ورأسه ينحنى من التواضع لله حتى يكاد أن يمس قربوس سرج دابته، تلك هى القوة، وهى على عكس العزة بالإثم التى إن غلبت تطغى، إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع.

«وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم» أى أن الأنفة والكبرياء مقرونة بالإثم، والإثم هو المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى، "فحسبه جهنم ولبئس المهاد". أى عزة هذه التى تقود فى النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة، ولكنها ذلة، فلا خير فى عمل بعده النار، ولا شر فى شر بعده الجنة. فإن أردت أن تكون عزيزًا فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟ «فحسبه» أى يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم، وأما كلمة "مهاد" فمعناها شىء ممهد ومُوطأ، أى مريح فى الجلوس والسير والإقامة. ولذلك يسمون فراش الطفل المهد. وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تمامًا؛ لأن الذى يجلس فى المهاد لا إرادة له فى أن يخرج منه، كالطفل فلا قوة له فى أن يغادر فراشه. إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه .فإن كان المهاد بهذه الصورة فى النار فهو بئس المهاد .

تفسير الشعراوي- المجلد الثاني

للاطلاع على الكتاب بأكمله:

https://bit.ly/3YdR8Ia

لمزيد من الاطلاع:

https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/