مارس 1, 2023

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

أسماء راغب نوار | المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

بقلم: إدوَارد سَعيْد

ترجمة: د. محمّد عناني

عنوان الكتاب الأصلي: (Representations of the Intellectual, Edward Said, Vintage Books, 1996)

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

لا تُقدم محطات الإذاعة الأمريكية محاضراتٍ مثل المحاضرات التي تُقدِّمها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في السلسلة المعروفة باسم «محاضرات ريث» وإن كان عددٌ من الأمريكيين قد شاركوا في تقديم تلك السلسلة التي افتتحها برتراند رسل عام ١٩٤٨م، وكان من بينهم روبرت أوبنهايمر، وجون كينيث جالبريث، وجون سيرل، وكنت قد سمعتُ بعضهم «على الهواء»، وأذكر بصفةٍ خاصة السلسلة التي قدَّمها توينبي عام ١٩٥٠م، وكنتُ إذ ذاك صبيًّا يشتدُّ عوده في العالم العربي، وكانت اﻟ «بي بي سي» تُمثل آنذاك جانبًا مُهمًّا من جوانب حياتنا، وما زالت عبارة «قالت لندن هذا الصباح» تتردَّد كثيرًا في الشرق الأوسط حتى اليوم، والمُفترَض فيها أن «لندن» صادقة فيما تقول. ولا أستطيع القطع فيما إذا كانت هذه النظرة إلى اﻟ «بي بي سي» أثرًا من الآثار التي خلَّفها الاستعمار، ولكن الحقيقة هي أن اﻟ «بي بي سي» تتمتَّع بمكانةٍ في الحياة العامة في إنجلترا وفي الخارج لا تُدانيها منزلة أي محطة إذاعة حكومية مثل «صوت أمريكا» أو الشبكات الإذاعية الأمريكية، بما في ذلك محطة «سي إن إن». ومن أسباب ذلك أن البرامج التي تُقدِّمها اﻟ «بي بي سي»، مثل «محاضرات ريث» وبرامج المناقشات والبرامج الوثائقية الكبيرة، لا تُذاع باعتبارها برامج تتمتَّع «بمُباركة الدولة» بل باعتبارها فرصًا لإمتاع المُستمِعين والمُشاهدِين بمادة علمية جادَّة بالِغة التنوُّع كثيرًا ما تتَّسِم بامتيازها وبراعتها.

ولذلك أحسستُ بالفخر الشديد حين عَرَضَتْ عليَّ آن وايندر، باسم اﻟ "بي بي سي"، فرصة تقديم «محاضرات ريث» لعام ١٩٩٣، وإزاء مشكلات تحديد مواعيد الإذاعة اتَّفقنا على تقديم المحاضرات في أواخر يونيو بدلًا من الموعد المعتاد في يناير. لكنه ما إن أعلنت الإذاعة هذا النبأ في أواخر عام ١٩٩٢ (أو بعد الإعلان بقليل) حتى ارتفعت أصواتُ جوقةٍ دائبة الصراخ، ولو أن عدد أفرادها محدود نسبيًّا، تنتقد اﻟ «بي بي سي» بسبب اختياري أنا لإلقاء هذه المحاضرات أصلًا، وكانت تُهمه هذه الأصوات أنَّني من المُناضلين النشِطين في سبيل الحقوق الفلسطينية، وهو ما يَسلُبني، في رأي تلك الجوقة، الحقَّ في الحديث من أي منبرٍ يتمتع بالرزانة والاحترام. ولم تكن تلك إلَّا الحُجَّة الأولى في سلسلة الحُجَج غير العقلانية والمُعادية للمنطق مُعاداةً واضحةً صريحة. وكانت المُفارَقة أنها تؤيد ما أقول به في محاضراتي عن دور المثقف في الحياة العامة باعتباره اللامُنتمي أو الهاوي الذي يُعكِّر صفو الحالة      الراهنة.

وأمثال هذه الانتقادات تكشف في الواقع عن الكثير من سِمات نظرة البريطانيين إلى المُثقَّف. ولا أُنكِر أن الصحفيين قد يَنسبون مواقفَ غير صادقة للجمهور في بريطانيا، ولكن كثرة تكرار الإعراب عن هذه المواقف يمنحها قدرًا ما من المِصداقية الاجتماعية. وقد علَّق أحد الصحفيين المُتعاطفين معي على المحاور المُعلنة «لمحاضرات ريث» — أي «صور تمثيل المُثقف» — قائلًا إنه موضوع أبعَدُ ما يكون عن "الروح الإنجليزية".

فكلمة المُثقَّف بالإنجليزية قد تعني «المُفكِّر»، وقد ترتبط بعباراتٍ مثل «البرج العاجي» وإثارة السخرية أو «الاستهزاء». وقد أكَّد هذا الاتجاه في التفكير ما ذكرَه المرحوم رايموند ويليامز في كتابه "كلماتٌ أساسية" قائلًا إن الكلمات الإنجليزية التي تَعْنِي المُفكِّرين والصبغة الفكرية وطبقة المُفكِّرين كانت ذات دلالاتٍ تحطُّ من قدرها، وقد ظلَّت هذه الدلالات سائدةً حتى مُنتصف القرن العشرين، والواضح أن هذه الدلالات لا تزال قائمة."

ومِن المهام المنوطة بالمُثقف أو المُفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات «الاختزالية» التي تفرِض قيودًا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر. ولم أكن أُدرك مدى القيود التي أتعرَّض لها قبل إلقاء هذه المحاضرات، فكثيرًا ما تردَّدَتْ شكاوى الصحفيين والمُعلِّقين من أنني فلسطيني، وأن هذه الصفة، كما كان يعرف الجميع، مُرادِفة للعنف، وللتعصُّب، ولقتل اليهود. ولم يستشهِد أحد منهم بقولٍ من أقوالي، بل افترض الجميع أن ذلك أمر أشهر من أن يحتاج إلى دليل، أضِف إلى ذلك ما زعَمَتْهُ صحيفة «الديلي تليجراف» بنبراتها الرنانة من أنني مُعَادٍ للغرب، ومن أن كتاباتي تُركز على «اعتبار الغرب مسئولًا» عن جميع شرور العالَم، وخصوصًا شرور العالَم الثالث."

وأما ما لم يلتفِت إليه أحد على الإطلاق، فيما يبدو، فهو كل ما كتبتُه فعلًا في سلسلةٍ كاملة من الكتب، ومن بينها كتاب "الاستشراق" وكاتب «الثقافة والإمبريالية»، (وكانت خطيئتي التي لا تُغتفَر في الكتاب الأخير هو ما قُلته عن رواية «مانسفيلد بارك» للكاتبة جين أوستن، وهي رواية لا أزال أمتدِحُها مثلما أمتدح رواياتها الأخرى جميعًا، وكنتُ قد ذكرتُ أن تلك الرواية تعرِض فيما تعرِض له للرقِّ ومزارع قصب السكر التي يمتلكها البريطانيون في جزيرة أنتيجا بالبحر الكاريبي، والكاتبة تُشير إلى هذا وذاك، بطبيعة الحال، إشارات مُحددة واضحة. والفكرة التي كنتُ أعرضها هي أن قرَّاء جين أوستن ونُقَّادها في القرن العشرين، شأنهم في ذلك شأن الكاتبة التي كانت تتحدَّث عما يجري في بريطانيا وفي المُمتلكات البريطانية خارج ديارهم، ينبغي أن يضعوا نصب أعيُنهم ما يجري في الداخل والخارج لا أن يتجاهلوا ما يجري في تلك المُمتلكات على نحو ما دأبوا عليه طويلًا). وكانت كُتُبي ولا تزال تحاول محاربة إنشاء المفاهيم الوهمية مثل «الشرق» و«الغرب»، ناهيك بالمفاهيم العنصرية الخالصة مثل «أجناس الرعايا»، و«الشرقيين»، و«الآريين»، و«الزنوج»، وهلمَّ جرًّا، أي إنني لم أقصد مُطلقًا أن أدعو أحدًا إلى تصوُّر «براءة فطرية مغبونة» في البلدان التي عانت طويلًا من ويلات الاستعمار، بل إنني قلتُ مرارًا وتكرارًا إن هذه التجريدات الخرافية أكاذيب، شأنها في ذلك شأن شتَّى الأقوال التي تَنسب المسئولية إلى عاملٍ أوحدَ مِن العوامل؛ فالثقافات بالِغة التداخل، ومضمون كلٍّ منها وتاريخه يتفاعلان تفاعُلًا بالِغًا مع غيرهما، إلى درجةٍ يمتنع  فيها «النقاء العنصري» لثقافةٍ ما، ويستعصي معها إجراء جراحاتٍ لفصل بعضها عن بعض، وهي جراحات أيديولوجية في مُعظم الأحوال مثل جراحة فصل ما يُسمَّى «الشرق» عما يُسمَّى "الغرب".

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

على المثقف في كنف الإسلام أن يُحْيي الاجتهاد، أو التفسير من وجهة نظر جديدة، لا أن يستسلم منساقًا مثل الأغنام وراء علماء الدين ذوي الطموحات السياسية أو مثيري عواطف الدهماء من المتحدثين ذوي الشخصيات الجذابة.

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

المثقف يشبه الملاح الذي تحطمت سفينته فتعلم أن يعيش.

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبة

إن المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما، وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع. وهذا الدور له حد قاطع، أي فعال ومؤثر، ولا يمكن للمثقف أداؤه إلا إذا أحس بأنه شخص عليه أن يقوم علنًا بطرح أسئلة محرجة، وأن يواجه ما يجري مجرى الصواب أو يتخذ شكل الجمود المذهبي، (لا أن ينشيء هذا أو ذاك)، وأن يكون فردًا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه، وأن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء. ويقوم المثقف بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية، وهي أن جميع أفراد البشر من حقهم أن يتوقعوا معايير ومستويات سلوك لائقة مناسبة من حيث تحقيق الحرية والعدل من السلطات الدنيوية أو الأمم، وأن أي انتهاك لهذه المستويات والمعايير السلوكية، عن عمد أو دون قصد، لا يمكن السكوت عليه، بل لا بد من إشهاره ومحاربته بشجاعة. المثقف والسلطة

المثقف والسلطة- رؤية ثاقبةللاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://www.hindawi.org/books/41849194/

لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/