أبريل 14, 2023

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

الاستشراق - الجزء الثاني

أسماء راغب نوار | الاستشراق - الجزء الثاني

بقلم: إدوارد سعيد
ترجمة: د. محمد عناني
عنوان الكتاب الأصلي: (Edward Said, Orientalism: Western Conceptions of the Orient, penguin 1995.

الاستشراق - الجزء الثاني

أنا أعتقد شخصيًّا أن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلًا على السيطرة الأوروبية الأمريكية على الشرق أكثر من كونه "خطابًا" صادقًّا حول الشرق (وهو ما يزعمه الاستشراق في صورته الأكاديمية أو البحثية) ومع ذلك فعلينا أن نحترم ونحاول أن ندرك ما يتسم به "خطاب" الاستشراق من قوة متماسكة متلاحمة الوشائج، والروابط الوثيقة إلى أبعد حد بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار. وعلى كل حال، فإن أي مذهب فكري يستطيع الصمود دون تغيير، واستمرار التمتع بمنزلة العلم الذي يتعلمه الناس (في المعاهد التعليمية والكتب والمؤتمرات والجامعات ومعاهد تخريج العاملين بوزارة الخارجية) منذ عصر إرنست رينان، في فرنسا، في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر في الولايات المتحدة، لابد أن يكون أقوى من مجموعة من الأكاذيب وحسب. وليس الاستشراق إذن خيالًا أوروبيًّا مُتَوَهَّمًا عن الشرق، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه من أنشأه، واستُثْمرتْ فيه استثماراتٌ مادية كبيرة على مر أجيال عديدة. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبًا معرفيًّا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين، مثلما أدى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة.

الاستشراق - الجزء الثاني

ويعتمد الاستشراق في وضع استراتيجيته، بأسلوب يتسم بالاتساق، على هذا التفوق المرن في الأوضاع، ومعناه وضع الغربي في سلسلة كاملة من العلاقات التي يمكن أن تنشأ مع الشرق بحيث تكون له اليد العليا في كل علاقة منها. ولماذا لا يكون الأمر كذلك، خصوصًا في الفترة التي بزغ فيها نجم أوروبا بزوغًا فذًّا منذ أواخر عصر النهضة إلى الوقت الحاضر؟ لقد حضر العلماء أو الباحثون أو المبشرون أو التجار أو الجنود إلى الشرق، أو فكروا في أمر الشرق، لأنهم كانوا يستطيعون الحضور إلى الشرق، أو التفكير في الشرق، دون مقاومة تذكر من جانب الشرق. ففي الإطار العام لاكتساب المعرفة بالشرق، وتحت مظلة الهيمنة الغربية على الشرق في الفترة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، نشأت صورة مُرَكَّبةٌ للشرق، وأصبحت ملائمة للدراسة في المعاهد العليا، وللعرض في المتاحف، ولإعادة الصوغ في وزارة المستعمرات، وللاستشهاد بها نظريًا في الأطروحات الخاصة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم اللغة، ودراسات الأعراق والدراسات التاريخية عن الجنس البشري والكون، إلى جانب الاستشهاد بنماذج منها في النظريات الاقتصادية والاجتماعية للتنمية والثورة والشخصية الثقافية، وسمات الفرد الوطنية والدينية. أضف إلى ذلك أن الفحص الإبداعي للموضوعات الشرقية كان يستند بصورة شبه كلية إلى وعي غربي سائد، وهو الوعي الذي أفرز تلك الصورة المركزية للشرق التي لم يطعن فيها أحد، وكان ذلك أولًا وفق أفكار عامة تحدد من هو الشرقي أو ما هو الشرقي، وبعد ذلك وفق منطق تفصيلي لا يخضع فحسب لحقائق الواقع الفعلي بل تمليه شتى الرغبات وضروب القمع والاستثمار والتوقعات. فإذا كنا نستطيع الإشارة إلى بعض الأعمال الاستشراقية العظيمة القائمة على البحوث الأصيلة، مثل المنتخبات العربية التي وضعها سلفستردي ساسي، أو كتاب وصف أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم الذي كتبه إدوارد وليم لين، فعلينا أيضًا أن نذكر أن الأفكار العنصرية لدى رينان وجوبينو قد أملتها نفس النزعة، مثل عدد كبير من الروايات الإباحية التي كتبت في العصر الفكتوري أي في الفترة 1837 – 1901 (انظر التحليل الذي يقدمه ستيفنز ماركوس لما يسميه "التركي الشهواني").

الاستشراق - الجزء الثاني

ولكن الصياغة الحالية لتلك "الأحوال" السياسية صياغة غير محددة وتتسم بالتعميم الشديد الذي يسلبها القدرة على إثارة الاهتمام، وقد يوافق عليها أي فرد دون أن يوافق أيضًا وبالضرورة على أنها كانت بالغة الأهمية، مثلًا، للروائي فلوبير عندما كتب سلامبو أو للكاتب هـ. أ. ر. جيت عندما كتب الاتجاهات الحديثة في الإسلام. فالمشكلة أن الحقيقة الكبرى المهيمنة، بالصورة التي وصفتها بها، تفصلها مسافة شاسعة عن تفاصيل الحياة اليومية التي تتحكم في النظام الدقيق للرواية أو للكتاب العلمي أثناء كتابته. لكننا إذا استبعدنا من البداية الفكرة التي تقول إن الحقائق "الكبرى" مثل السيطرة الإمبريالية يمكن تطبيقها بصورة آلية وحتمية على المسائل المعقدة مثل الثقافة والأفكار، فسوف نبدأ الاقتراب من لون طريف من ألوان الدراسة. والفكرة التي أطرحها هي أن الاهتمام الأوروبي، ثم الاهتمام الأمريكي، بالشرق كان اهتمامًا سياسيًّا وفق بعض الروايات التاريخية الواضحة له التي سبق لي إيضاحها، ولكن الثقافة هي التي أوجدت ذلك الاهتمام، وجعلت تمارس تأثيرها جنبًا إلى جنب مع الدوافع العقلانية الأخرى، من سياسية واقتصادية وعسكرية، حتى جعلت الشرق يتخذ صورة المكان المتنوع السمات والمعقد، وهي الصورة التي كان يبدو عليها بكل وضوح في المجال الذي أدعوه الاستشراق.

وهكذا فليس الاستشراق مجرد موضوع أو مجال سياسي يتجلى بصورة سلبية في الثقافة أو البحث العلمي أو المؤسسات؛ وليس أيضًا مجموعة كبيرة غير مترابطة من النصوص المكتوبة عن الشرق؛ بل وليس تمثيلًا وتعبيرًا عن مؤامرة إمبريالية "غربية" دنيئة تهدف إلى إخضاع العالم "الشرقي"، لا بل إنه الوعي الجغرافي السياسي المبثوث في النصوص العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية واللغوية؛ وهو تطوير تفصيلي ليس فقط للتمييز الجغرافي الأساسي (الذي يقول إن العالم ينقسم إلى نصفين غير متكافئين هما الشرق والغرب) بل أيضًا لسلسلة كاملة من "المصالح" التي يستعين في تحقيقها والحفاظ عليها بشتى الوسائل مثل نتائج البحوث العلمية، وإعادة البناء اللغوي القديم، والتحليل النفسي، ووصف ظواهر الطبيعة والمجتمعات وهو في ذاته إرادة معينة أو نية معينة، أي إنه ليس مجرد تعبير عن الإرادة والنية، لتفهم ما يبدو بوضوح عالمًا مختلفًا (أو عالمًا بديلًا وجديدًا) وللسيطرة عليه في بعض الأحيان والتلاعب به وضمه إليه؛ وهو، قبل كل شيء، "خطاب" لا يرتبط مطلقًا بعلاقة مباشرة بالسلطة السياسية السافرة وموازية لها، بل إن ذلك "الخطاب" يأتي إلى الوجود ويحيا في إطار التبادل المتقلب مع شتى أنواع السلطة، فيتشكل إلى حد كبير من خلال مبادلاته مع السلطة السياسية (مثل المؤسسات الاستعمارية أو الإمبريالية) والسلطة الفكرية (مثل العلوم السائدة كاللغويات المقارنة أو التشريح، أو أي من العلوم السياسية الحديثة) والسلطة الثقافية (مثل المناهج "الصحيحة" والمعتمدة للذوق والنصوص والقيم) والسلطة الأخلاقية (مثل الأفكار الخاصة بما نفعله "نحن" ولا يستطيعون "هم" أن يفعلوه أو يفهموه، مثلنا "نحن") والواقع أن حجتي الحقيقية هي أن الاستشراق بُعْدٌ مُهم من أبعاد ثقافتنا السياسية الفكرية الحديثة، أي إنه لا يقتصر على "تمثيل" صورة هذا البعد، وبهذه الصفة نرى أنه يتصل بعالمنا "نحن" أكثر مما يتصل بالشرق.

الاستشراق - الجزء الثاني

للاطلاع على الجزء الأول:
https://asmaanawar.com/orientalism_edward_said/

للاطلاع على الكتاب بأكمله:

https://bit.ly/3o6NZxv