قلم يقرأ على الماشي (15)
عن قصة "نظرة" ليوسف إدريس
عندما التحقت بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها تعلمت أن معيار نجاح النص الأدبي هو أن يكون (moving) بمعنى مؤثر، فاستوقفتني الصفة (moving) وأدركت أنها من الحركة مما يعني أن معيار نجاح النص الأدبي هو أن يُحرِّك المشاعر داخل الإنسان فتذكرت قصة يوسف إدريس القصيرة "نظرة" إذ كنت لا أتمالك دموعي كلما قرأتها.
كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه. في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدًا حقًّا. ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن» وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة. وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل. وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية. ثم أضبطهما معًا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيرًا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلي الفرن، وكان قريبًا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل كل ما حدث أنها انتظرت قليلًا لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة «ستّي».
ولم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش الذي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون.
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت علي مهل، واستدار الحمل معها، وألقت علي الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة.
لمزيد من الاطلاع:
https://asmaanawar.com/journey_to_my_website/