فبراير 28, 2023

|

بواسطة: asmaa

|

Categories: قلم يقرأ

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

أسماء راغب نوار | أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

بقلم: د. عماد رشاد عثمان

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

"أنا لست ما حدث لي، إنما أنا ما اخترت أن أكونه بالرغم من ذلك"

كارل جوستاف يونج

إننا لن نخوض تفصيلًا في أشكال الإيذاء ومظاهر الإساءات قدر حديثنا عما تحدثه فينا الإساءة ومظاهر التكوين الشائه الناجم عنها، ولكن تمثيلًا لا تفصيلًا نذكر بعضًا من أشكال الإساءات:

الإساءات البدنية: مثل الضرب والصفع واللكم، ويروي الكثير عن (الربط والتكتيف)، ويروي البعض عن (التحريق) وغيرها من أشكال اختراق المساحة الجسدية للأبناء توبيخًا.

الإساءة النفسية:

* مثل المقارنات بالأقران وأفراد العائلة وربما إخوة الطفل نفسه.

* الطرد أو التهديد بالطرد.

* الإهمال، والتجاهل، وعدم الاكتراث بالطفل واحتياجاته.

* التفرقة بين الطفل وإخوته، أو التفرقة بين الأبناء على أساس امتيازات الجنس (امتيازات الذكور) أو العمر (الطفل البكر)، أو منح الابن الذكر مساحة سلطوية وتحكمية بأخواته من الإناث.

* الألقاب المهينة: كأن يتم إطلاق اسم أو كناية على الطفل متعلقة بسلوكه أو تكوينه، ويتم مناداته بها تعزيزًا أو تأديبًا.

* التنمر: ربما حينًا بدوام التهكم والإنهاك النفسي للطفل بالسخرية أو الاستفزاز، أو التعليق على ملامحه (كلون بشرته أو وزنه أو قسمات وجهه أو بعض أعضاء جسده انتقاصًا).

* محاولة كبت مشاعر الأطفال وعدم تقديرها.

* صراع الأبوين على مرأى ومسمع الأبناء بما يتضمنه من إهانات وفجر في الخصومة.

* إجبار الأبناء على الانحياز لأحد الأطراف المتصارعة في العائلة.

* التركيز على الجوانب السلبية من الأبناء، وغياب التشجيع والتقدير والحفاوة.

* كثرة السباب ودوام التقبيح والانتهار، وكثرة الصياح والصراخ ونوبات الغضب التي يتم إنفاذها في الطفل أو أمامه.

* التسلط المفرط، وقمع مساحات الاختيار، والتهديد بالحرمان، ودوام المن بالإنفاق.

* التخويف: بصص العفاريت، أو التأديب بالترويع (حجيبلك الغول أو ما شابه).

* خذلان الوعود المتكرر.

* الحماية المفرطة، والتدليل المبالغ فيه.

الإساءة الروحية: عبر فرض الشعائر الدينية، والتهديد بالجحيم، واستخدام سيف العقوق وربط الغضب الأبوي على أمور بسيطة بالغضب الرباني، ورواية قصص القبر والعذاب الأخروي بشكل أبكر من قدرة عقل الأطفال على الاستيعاب، ويندرج تحتها روايات التفكير السحري المبكرة: كقصص الجن، والحسد، والسحر، والأعمال وغيرها.

الإساءة الجنسية: كالتحرش المباشر بالطفل بالجسد أو باللفظ أو ربما بالنظر، أو الاستعراض الجسدي أمامه كالتعري، أو إهمال حدود الممارسة الجنسية بين الأبوين أمام الأبناء أو على مسامعهم، أو ردود الفعل المتخاذلة بعد رواية الأبناء لقصص تعرضهم للتحرش، أو تجريم الضحية، أو الأمر بالكتمان وتعميق الخزي، ويدخل كذلك تحت نطاق الإساءة الجنسية إخضاع البنات لعملية الختان (انتهاك الأعضاء التناسلية الأنثوية).

إن كل إساءة تحمل في تكويننا الأعمق أربعة أبعاد سنركز على تفصيلها: جرح الهجر، والخوف، والخزي، والاستياء.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

  1. 1. جرح الهجر

إن الإنسان يتغير لسببين؛

حينما يتعلم أكثر مما يريد

أو حينما يتأذى أكثر مما يستحق.

شكسبير

كل إساءة هي (جرح هجر) وإن لم تحتوِ في حقيقتها على لفظ أو نبذ أو ابتعاد مكاني، ولكنها نزع للمرء من تربة أمانه، ومن بيئته الحاضنة.

والبيئة الحاضنة هي بيئة شعورية في حقيقتها وليست مجرد بيئة مكانية.

فكم من بيت لم يكن يظلنا سقفه وإن احتوى أجسادنا، وكم من منزل لم يكن يؤوينا في حقيقته وإن حاز اجسامنا، بل كنا نحتاج إيواءً من قسوة إيوائه.

لذا فالإساءة في حقيقتها هي نوع من الهجر؛ حيث تحمل البيئة الشعورية الحاضنة نفسها وترحل عنا، تتركنا الإساءة (عراة شعوريًّا)، (لاجئين نفسيًّا).

إن أهل الإساءة هم (أهل الهجر النفسي)، (المنفيون شعوريًّا)، لا يمكنهم أن يشعروا بالوطن في أي بقعة، ليس لأنهم قد اغتربوا عنه، ولكن الوطن هو من رحل عنهم!

وما الوطن بالنسبة لإنسان يتكون؟ هو ببساطة مساحة صغيرة من دائرة نصف قطرها الأيمن ذراع أبوي، والأيسر ثدي أموي، ومحيطها هو (حالة الاحتضان) الشعوري والجسدي لتهدئة خوف الصغير من عالم غريب ويهدده.

أي أن الأسرة ببساطة هي بيئة احتضان (تَهدَوِيَّة) لقلق مقابلة الوجود، يدخلها الإنسان لتحميه في البدايات لحين اكتمال نمو أدواته الخاصة التي يتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعَّال وذاتي، هي ضرورة تطورية للطفل البشري (واحد من أطول الأطفال عمرًا في الطفولة والاعتمادية في المملكة الحيوانية بأسرها)، تمنحه بدائل مؤقتة لأدوات المواكبة التي لم تنشأ بعد فيه لمواجهة العالم، أي أنها ضرورة بقاء.

وغياب تلك البيئة لا يهدد بقاء الكائن في طفولته فقط، بل يُعطل من نمو أدوات التعامل مع العالم تلك، مما يهدد بقائه حتى بعد بلوغه أيضًا.

وهنا لا نتحدث عن التربية أو عن تعليم مهارات لهذا الطفل لكي يجابه العالم، فالطفل ليس لوحًا أبيض فارغًا يكتب فيه الأبوان والمجتمع الأول ما يشاء، فالأب والأم لا يعلمان ابنهما شيئًا في الحقيقة، إنما كأننا نتحدث عن (برعم) أو عن (بذرة) تحمل داخلها كافة إمكانات (الشجرة)، فقط تحتاج (التربة) خصبة وبعض السماد وماء الري لنمو تلك الإمكانات منها.

لا يمكننا أن نرى أن المحيط هو ما أنشأ أوراق تلك الشجرة، إنما فقط وفر لها ظروفًا مواتية وداعمة للنمو وميسرة له لا أكثر لتستخدمه الشجرة بتلك البرمجة الداخلية فيها لتنمو وتثمر وتصير أنموذجًا نهائيًّا للإمكان الموروث داخلها.

وغياب البيئة الداعمة للنمو والميسرة لتفعيل الإمكان، ماذا يفعل؟ يخرج نبتات شائهة، هذا لم تذبل وتنزوي وتموت.

فالنسر البالغ لا يعلم فراخه الطيران، إنما فقط يفعل إمكان الطيران المجبول عليه جينيًّا.

والأبوان لو لم يفعلا شيئًا سوى توفير الحب الصحي والقبول وكف أذاهما؛ لكان الناتج أفضل كثيرًا وأكثر راحة واتساقًّا داخليًّا من منتوجات المحاولة الشائهة للكتابة بالإساءة على لوح أبيض يظنان أنهما يمتلكانهَ!

الإساءة تقوم بتجميد النمو في مراحله النفسية الأولى، وتحرم الناشئ من تكوين جعبة أدواته لمواجهة العالم، لذا يخرج شاعرًا بالتهديد، وهو أكثر من ذلك التهديد الذي شعر به يوم أن جاء للعالم وعلم أن عليه مواجهة الوجود، فآوى إلى بيئة تمنحه أحتضانًا مؤقتًا لحين نمو أدواته، فلم يجد لديها سوى مزيد من التهديد والاغتراب.

لذا قد شعر الناشئ بنوع من التهديد المركب: (تهديد الوجود الأصلي) مضافًا إليه (تهديد هجر البيئة الحاضنة).

لذا يتخبط هذا الكائن المحروم من أدواته، مع خفقات القلب المرتعد داخله باحثًا عن تسكين لذلك التهديد، أو تلاه عنه.. فيبحث عن ذلك في العلاقات حينًا، وفي الانعزال المفرط حينًا، وفي السلطة حينًا، وفي الشهرة حينًا، بل وفي الإدمانات أحيانًا. فالإدمان ليس في حقيقته سوى محاولة هروب من ذلك (التهديد المركب) لشخص بلا أدوات لمواكبة الضغوط؛ الإدمان بكافة أشكاله: المخدرات، الكحول، الجنس، الإنفاق، العلاقات، الطعام، بل حتى تعاطي الدين نفسه كمحاولة تسكين للقلق المضاعف؛ هو نوع من المواكبة المغلوطة، أو ببساطة هو أدوات بالية لشخص يسير عاريًا في غابة الوجود؛ أدوات التقطها احتياجًا لا اختيارًا.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

الإساءة وتكوين قالب العلاقات

"إن أقصى وأرقى نشاط يمكن للإنسان أن يقوم به هو الفهم، فأن تفهم يعني أن تصبح حرًا"

باروخ سبينوزا

لقد كان من المفترض أن يكونوا بوابتنا إلى الحب وإلى معرفة الذات والعالم، أولئك الذين ساقنا حظنا العثر أن ننشأ هناك جوارهم.. آباء وأعمام وأخوال وأجداد ومعلمين، وأصدقاء للأسرة كان لهم مدخل مكفول بتلك العلاقات إلينا.

كانت أعيننا لا تقوى على مواجهة الضوء.. ضوء عالم الكبار، فاتخذناهم غطاءً، وبدأنا ننظر للنور عبر عيونهم، لذا لا عجب أن تشوهت نظراتنا للحياة، عدساتنا المضيئة بآثار أذاهم، بصفعاتهم أو لعابهم أو جنونهم... أو شهواتهم!

ولكنهم كانوا مبرأين دومًا! يسوق المجتمع والدين وباقي العائلة أدلة براءتهم، لذا نرتبك أكثر.. ويتشوه مفهوم الحق لدينا، فقد كان من المفترض أن يتشكل هناك.

من أين كان يمكن أنت نتعرف على المرأة، أو على صورتنا في عين امرأة سوى هناك في تلك المساحة مع أول امرأة عرفناها... الأم؟!

فتلك المساحة معها تحمل من السطوة والقوة أنها قادرة أن تنبت الأمان والأمل والثقة، أو تحرق تربة الحميمية في ذكرٍ ينمو، لتنبت هناك حشائش شيطانية من الغضب والاستياء والرغبة في القصاص.

ومن أين كان يمكن لفتاة ما أن تعرف الذكورية والرجولة، أو صورتها في عين رجل، أو ما تتوقع منه وما يمكنها أن تمنحه؟! من أين كان يمكنها أن تعرف قيمتها في علاقة سوى من الرجل الأول في حياتها.. الأب؟!

فتلك المساحة هناك تحمل من الأثر أنها قادرة أن ترتب ملفاتها وتجعل لها مركز ثقل داخلي يحفظ عليها اتزانها، وصوت رقيق يرتب روحها في عالم التسليع يخبرها بأنها جميلة بما يكفي، وفريدة ولا يمكن استبدالها، أو على النقيض فتحرق تلك المسافة مع أب مؤذٍ مساحات الثقة الوليدة في نفسها.. وتسرق راحة بالها وتأسرها على الدوام في لهاثٍ دائم لنيل الاستحسان أو انبطاحية مستدامة خشية الفقد، أو شعور لصيق بعدم الكفاية، وكراهية الأنوثة وبغض الذاتَ!

ومن أين يمكننا أن نستمد تصوراتنا عن الحب والزواج والعلاقات.. عن التكامل والمساواة والندية الإنسانية في علاقة مشبعة، سوى من تلك المساحة بينهما.. بين الرجل الأول في حياتنا والمرأة الأولى في حياتنا؟!

كيف يمكننا أن ندرك أدوارنا وحقوقنا وحدودنا سوى من المحاكاة الأولى للقصة الأولى التي نشاهدها مرتسمة أمامنا.. (علاقة الأب بالأم)؟!

هناك نوعان من (صدمات الارتباط) مع الأهل Attachment trauma

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

وفوبيا الحميمية: تعني (خوف القرب من الآخر) وهو اضطراب قد أصاب علاقاتنا متخذًا أشكالًا عدة سنبينها فيما يلي:

  • العدائية كنوع من فوبيا الحميمية:

العدائية الرافضة كوسيلة حماية، ذلك التوجه الذي يصيبنا أحيانًا فيجعلنا نقصي الآخرين عن حياتنا، نزيحهم بعنف، بل ربما نقاوم اقترابهم بشيء من النقد اللاذع والسخرية، نبدو أشخاصًا كريهين نفتعل المشكلات، هو في الحقيقة نوع من (فوبيا التقرب، والهرب من الحميمية)، فتلك الكلمات اللاذعة والانتقادات الصارمة والعبارات الخشنة تبقى المسافات بيننا وبينهم، وتمنعهم من الاقتراب، وأحيانًا تلك الرسميات في التعامل والإفراط في وضع الحدود في العلاقات هي أيضًا وسيلة لإبقاء الآخرين في الخارج، بعيدًا عن شرنقة الانعزال التي أقمناها حول نفوسنا.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

2- العنف السلبي كنوع من فوبيا الحميمية

هناك نوع آخر من العدائية، يسمى العنف السلبي Passive Aggression

يقول أحدنا:

"كان لدي نمط أني كلما غضبت أكتفي بالصمت، وأنكفئ على نفسي، أتوقف عن المشاركة والكلام.

ربما كنت أحاول إرسال رسالة اعتراض صامتة ولكنها شديدة الصخب عبر التكور على نفسي، وتهميش وكأني أحاول الطرق على شعور الذنب فيهم وكأنهم هم من نبذوني وأبعدوني.

كنت دومًا الشخصية (القماصة)

كنت أنتظر من يبحث عني، من يلح علي، أو من يقتحم انعزالي الذي أعاقبهم به ذلك ليخبرني أنني محبوب وأنه يكترث لأمري".

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

  1. الأسرار كنوع من فوبيا الحميمية!

إننا نخاف ذلك الانفتاح على الآخر، ذلك القُرب الذي يُعرينا، الذي يفضح ضعفنا وضعفهم، ويكشف نقصنا ونقصهم، نودُّ أن يبقى كلَّ شيءٍ مثاليًّا؛ لأننا في أعماقنا نشعر بالخزي، واحتقار ذواتنا. شيء ما داخلنا في منطقة غائرة العمق يخبرنا أننا لا نستحق الحب، وأنه إذا اطلع علينا أحدهم فلن يقبلنا ولن يحبنا.

وكأن هناك شيئًا ما منا نودُّ أن يبقى متواريًا، ربما لا نعرف بالضبط ما الذي نخشى أن ينكشف فينا، وما الذي نخجل منه، ولكننا نشعر بهذا الشعور أنه هناك وأنه سيكون سببًا في أن نتعرَّض للرفض والهجر.

لسان حالنا يقول: "لو اقترب أحدهم واطلع على حقيقتنا سيرفضنا ويتركنا" لذا نبقى على المسافات ونقول إننا وأنهم في البعد أجمل.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

الإساءة والتعاطف

إن الإساءة حين تشوه داخلنا فإن أكثر ما يطاله منا هو قدرتنا على التعاطف، فهي تفسد ويصيبها العطب حيث تصبح إما في حالة إفراط أو تفريط؛ (أكثر من اللازم أو أقل من اللازم).

لذا لا عجب أن نجد المتعرضين للإساءات يصبحون إما:

  • قليلي التعاطف: نجد داخلهم سمات النرجسية وأحيانًا السيكوباتية، لا يشعرون بالآخر، ولا يقدرون مشاعر المحيطين، ولا يكترثون إلا بما يصيبهم وحدهم، يعاملون الناس كمحض أدوات وأشياء ووسائل ينبغي استغلالها والاستفادة منها.

ينشأ هذا التبلد في التعاطف كوسيلة حماية للذات الجريحة والنفس الملتهبة.

  • أو شديدي التعاطف Empaths: إلى حد التقمص العاطفي لكل ما يمر بهم، ينغمسون بشدة في كل شعور للآخر، بل ربما يتناسون مشاعرهم ويقدمون الآخر واحتياجاته دومًا.

وهناك ظاهرة كونية واضحة؛ وهو شيوع ذلك التزاوج الذي يحدث دومًا بين أصحاب النوع الأول (متبلدي التعاطف) مع أصحاب النوع الثاني (شديدي التعاطف).. فتجد تلك العلاقة النموذجية والمكررة بينهما، العلاقة التي غالبًا ما تكون داعمة لمرض كلًّ منهما ومؤذية أكثر.

العلاقة التي تجدها (كليشيها) مكررًا بشكل غريب بين ضحايا الإساءة وكأنها منهج مفروض يسير نحوه كل ضحايا الإساءات ما لم يقتحم التعافي الدورة ويكسر الحلقة المفرغة.

لذا فإن التعافي يعيد ضبط مقادير التعاطف، ويعلِّم الناجين شكل التعاطف الصحي بلا إفراط حد الانغماس والإرضائية والتقمص، وبلا تفريط حد الأنانية والتبلد..

يعلمنا التعافي معنى التواصل الإنساني الحقيقي مع الآخر دون إغفال الاعتناء بالذات ووضع الحدود، وبلا نوازع الإنقاذية والإرضائية، وكذلك بلا قسوة الانفصال أو وحشية الاستقلال.

العجيب في الأمر أن أصحاب نوعي التعاطف المعطوب يشعران دومًا أن علاقتهم عميقة للغاية ودسمة، ولكن الحقيقة أنها تكون علاقات شديدة السطحية والضحالة، ولكن أصحابها يظنون العكس.. وهكذا ربما في سائر علاقتهم: الصداقة والحب والعمل والزمالة. تلك العلاقة الإدمانية التي تجمع بين النوعين، هي أكثرها ضحالة.. رغم كونها أشدها تورطًا وأنغماسًا وأصعبها في الفرار والانفصال والتحرر لما تغذيه لدى كل واحد منهما..

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

لعبة الحُكم على الآخرين (الوجه الخفي للخزي)

شكرًا لكل إنسان مشغول بنفسه، يستغل عمره في محاولة دخول الجنة بدلًا من هدر الوقت في إثبات أن غيره سيذهب إلى النار!

علي شريعتي

هناك صلات وثيقة بين (الحكم على الآخرين) وبين (الشعور بالذنب)، وهناك رابط خفي بين (الكبر والغرور) وبين (الخزي والجلد الذاتي).

بل إن كلًّا منهم هو الوجه الآخر لصاحبه والظل الخفي للقطب الآخر.

تلك الأشياء التي قد تبدو متناقضة، هي متصلة بغرابة بل وكأنها تشكل بناءً واحدًا، إذا أردت إسقاط أيهما فلا يجب أن يبقى الآخر مرفوعًا!

فذلك الذي يحكم على الآخرين، إنما يضع لهم معيارًا يقيسهم عليه، ولا يستطيع أن يقبلهم كما هم، فيحاكمهم داخل ذهنه وإن منحهم الابتسامات أو حتى دموع التعاطف وإعلانات القبول، وهو هنا لا يستمد تلك الأنصال التي طالما جرحته تجاه الناس.

نحن حين نحكم على الآخرين، إنما نجلس في مقعد الاستعلاء الأخلاقي ground. Moral high، ونضع أنفسنا حكامًا على الصواب والخطأ وموكَّلين من السماء لاستبقاء الميزان.

إن الحكم على الآخرين هو أحد وجوه "الكبرياء الزائف"، حتى وإن ظهرت على ألسنتنا سمات التواضع ومضغنا عبارات "كلنا فينا من العيوب"، ولكن لم تزل عقولنا طافحة بالحكم والرفض!

وحين نفعل هذا فإننا نحمل عقابنا داخل فعلنا نفسه، فذلك القاضي داخلنا لا محالة سيتوجه تجاهنا في النهاية، وذلك الجلاد لابد أن يلتفت نحونا يومًا، ومن لم يستطع أن يتفهم الناس ومواقفهم ويتقبل قصورهم ويحتوي ضعفهم، فلن يتمكن من ممارسة ذلك مع ذاته!

كم نحن مساكين حين نحكم على الآخرين، وننصحهم، ونوجههم، ونشير لهم على ما نراه صوابًا وخطأً؛ ليسوا هم المساكين، بل نحن حقًّا.

فذلك النصل الذي نحده ونشحذه سيجرحنا، بل هو يجرحنا كل يوم في خلفية أذهاننا وإن لم نستشعره.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3لعبة رثاء الذات (دور الضحية)

من الألاعيب النفسية اللاواعية التي يتم ممارستها في العلاقات؛ تلك هي لعبة (رثاء الذات).. لعبة لها أشكال متعددة مورست علينا قبل أن نمارسها، وتوارثناها وأورثتنا دوامة شعورية يختلط فيها شعور الذنب بالغضب...

رثاء الذات الصامت:

وهي ممارسة نفسية داخلية يمارسها الشخص داخل نفسه كنوع من اللطمية، يبدأ فيها بتعداد الأمور الضاغطة عليه والأعباء الواقعة فوقه، وتكرار الحديث لذاته بلسان حاله (يا عيني عليَّا)، (كم أنا مسكين)، فيعدد أسباب وحدته ويظهر على مسرح ذهنه انشغالات الناس عنه وعدم اعتبارهم لآلامه وعدم اكتراثهم لما يلاقيه في وحدته.

تتوالى المشاهد على أدمغتنا حين ندخل في دوامة (رثاء الذات) عما لاقيناه من الألم والوجيعة، وما ارتطمنا به من خيبات، وما ذقناه من ويلات الخذلان.

(رثاء الذات) هو الوجه الأعمق لدور الضحية، تعميق لحالة (العجز المكتسب) التي ينتجها التعرض للإساءات أو البقاء لفترة طويلة في علاقة مؤذية سواء مع حبيب أو أب أو أم بلسان سام وأفعال قاسية، فنبدأ في تعريف أنفسنا من خلال هذه الحالة (المهزوم)/ (المغلوب)/ (فاقد الإرادة)/ (العاجز)/ (غير المسؤول)، ورغم كون هذه الحالة قاسية للغاية ومؤلمة، ولكنها الحالة التي اعتدناها ونشأنا فيها وعرفناها بما يكفي لنصبح خبراء بألمها.

ونظرًا لأن الألم المختبر سابقًا أهون في توقعه من الألم المجهول وإن انخفضت شدته، ونظرًا لأن (اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش)؛ فإننا نستنيم ذلك الدور، ونألف هذه المساحة، ونشعر بنوع من الأمان في لعب ذلك الدور.. الأمان، نعم الأمان الموازي للخوف المصاحب لهذا الدور.

دور الضحية يمثل اختلاط للمشاعر، خوف وعجز ويأس ولكنه مصحوب بأمان الألفة لكونه الدور الذي طالما لعبناه وأعتدناه ومارسناه أو مُورس علينا. أصبحنا نتقنه، لذا صرنا نهرب إليه بشكل لا شعوري مهما حوى من ألم؛ لأنه يمثل الألم المعروف، مقابل الألم المجهول المصاحب لدور (المسؤولية) الذي لا نتقن لعبه ولم نعتده ولم يُعلمنا أحد كيف نفعله!

لذا أصبحت نفوسنا مبرمجة نسبيًّا ولا شعوريًّا على الاستجابة للضغوط بهذه الطريقة، وحتى ونحن أناس بالغون ومسؤولون، أن ندخل في دوامة (الضحية) وشماعات (لا أحد يفهمني) و(لا أحد يكترث)، و(هم السبب)، وأن نبدأ في ممارسة الشفقة على الذات والانتحاب الداخلي.

ما هي المكاسب التي نجنيها من هذات الدور وتلك الطريقة غير الناضجة للتعامل مع الأمور والتي تدفعنا للإبقاء عليها؟ (ينبغي أن نفهمها ليكتمل التحرر):

  1. هي طريقة غير ناضجة لتخفيف الألم، فقديمًا حين كنا نتألم ولم نجد من يربت على آلامنا كنا نهرع إلى مواطن جراحنا فنعلقها تخفيفًا وتسكينًا (لعق الجراح)، يملؤنا الغضب أنه لا يوجد من يضمد لنا الجرح أو يقبل منا مواطن الألم، فطوَّرنا طريقة (لعق الجراح) كوسيلة تسكين ذاتي للألم، ثم كبرنا فكبرت معنا تلك الطريقة ولم نستطع التخلي عنها، لذا كلما أصابتنا الدنيا بهزيمة أو ضغوط أو جراح؛ فبدلًا من التواصل الفعال وإعلان احتياجنا، وبدلًا من تحمل مسؤوليتنا، والتعامل الواعي مع الضغوط، صرنا أيضًا نعمد لجراحنا فنلعقها، ونمد أيادينا إلى ذواتنا بمبالغة مفرطة في الشفقة بدلًا من التعاطف الصحي مع الذات (يا عيني عليَّا يا مسكين).
  2. لا واعيًا تعفينا حالة الشفقة على الذات من المسؤولية وتجعلنا نظهر أمام أنفسنا في مظهر العاجز قليل الحيلة الذي ليس لديه شيئًا ليفعله، أي أنها تحاول أن تكف صوت الجلد الذاتي الذي يطالبنا بفعل شيء ما للتغيير، أي أن (الشفقة على الذات) هي محاولة موازنة لصوت (لوم الذات)، وكلاهما صوت مريض يحتل نفوسنا، لن نستطيع أن نتخلص من أحدهما دون أن نتخلص من الآخر، هما وجهان لذات العملة من التعامل غير الناضج مع النفس (جلد الذات مقابل الشفقة على الذات) قطبي البندول المتأرجح داخلًّيا في ديناميكية تُساهم في تأصيل اضطراباتنا.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

  1. ولما كان رثاء الذات يحاول أن يعفينا من نصيبنا من المسؤولية ودورنا في الخطأ فحين ندخل في رثاء الذات داخل العلاقات فنحن نركز حينها على ما فعله الآخر، (وما جناه علي.. وما جنيت على أحد)، والتركيز على ملامح الضحية فينا، وبالتالي يزيل من علينا طائلة الاتهام ويعفينا من التساؤل (أين كان خطأي أنا)، ويجعلنا نتحرر من التزامنا بإصلاح مساحتنا من الطريق والعمل على تغيير نصيبنا من التواصل المعطوب.
  2. رثاء الذات يسهل فهم العالم بالنسبة لنا، فهو ببساطة يختصر العالم إلى أدوار.. (دور الجاني) (ودور الضحية) (ودور المنقذ)، يجعل العالم سهلًا كأقاصيص الأطفال، يظهر فيه نموذج الخير ونموذج الشر ونموذج البطولة والإنقاذ المنتظر.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

  1. رثاء الذات يحفز مشاعر الذنب لدى الآخرين، وتلك هي أحد المرتكزات الهامة لظهور لعبة رثاء الذات داخل العلاقات، وهنا نتحدث عن نوع آخر من رثاء الذات غير الصامت.. هو (رثاء الذات المعلن)، وهو نوع مختلف عن النوع الأول، أو يمكننا القول أنه مرحلة أخرى من مراحل الشفقة على الذات.

وهنا بدلًا من الانعزال والانكفاء على الذات والحديث الداخلي المفعم بلعق الجراح، يخرج الشخص للعالم ويجلس في مكان ظاهر ويبدأ في لعق جراحه علانية، أي أنه يبدأ في ممارسة أفعال وسلوكيات ظاهرية غرضها إعلان كونه الضحية في محاولة منه لمداعبة مشاعر الذنب لدى الآخرين.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

وأحيانًا نتخذ لعبة (رثاء الذات) وجهًا أكثر خفاءً وطريقة أكثر مراوغة في محاولة لتعميق مشاعر الذنب لدى الآخر، عبر مزيد من سلوكيات (البذل والعطاء).

وتلك الطريقة يمارسها الأشخاص المؤذيون كما يمارسها الضحايا على حد سواء طريقة ابتزاز عاطفي مشتركة لدى الجناة والضحايا معًا.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

وأحد مظاهر رثاء الذات الأخرى العميقة هي رفض الواقع الذي لا يمكن تغييره، بمعنى رفض ابتلاع الوقائع الذاتية والمعطيات الوجودية التي وجدنا أنفسنا مغموسين فيها.

فالمدمن يقول لماذا أنا مدمن؟ ولماذا لا أستطيع أن أشرب وأستمتع بشربي مثل الآخرين، وصاحب الرهاب الاجتماعي، إن دخل حيز الشفقة على الذات، يقول: لماذا يستمتع الناس بالصحبة ويسعى البعض ليكونوا محط الأنظار وأنا أجد صعوبة بالغة فقط في تقديم عرض في عملي يكفي ليدفعني في سلم الارتقاء!

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

نعم؛ ربما لسنا مسؤولين عن المعطيات الحتمية للوجود الذاتي الذي نحياه بتفصيلاته، ربما لسنا مسؤولين عن جراحنا ولا عن أمراضنا، ولكننا مسؤولون عن تعافينا، وعن سعينا نحو الشفاء.. مسؤولون عن محاولاتنا للصمود والنجاة واتخاذ الأفعال الواقعية للتعامل مع معطيات الوجود، والتعاطي معها بالشكل الذي يساهم في حياة أقرب ما يمكننا للرضا والإشباع.

الضحية فقط هو الطفل الذي كناه، ولكننا الآن بالغون مسؤولون عن تعافينا واستجاباتنا.

لن يغير من الأمر شيئًا استياؤنا ونوبات رثاء الذات الداخلي المنبعثة (يا عيني عليَّا)، بل ربما تفاقم الأمر حين تدفعنا في عملية تحطيم داخلية أو خارجية، أو ربما الانهماك في حالة وجودية ناقمة تدفعنا نحو عدمية ستهلكنا وتبقى الدنيا دائرة بلا اكتراث والوجود سائر بلا مبالاة لعدميتنا المدمرة للذات.

أو ربما تدفعنا تلك الحالة نحو التلاهي عن الوجع بمسكنات مؤقتة وملهيات عابرة لن تغير من الواقع شيئًا، بل تزيد انفصامنا عنه وانفصالنا عن حقيقته نحو عالم اللذة المؤقتة والعابرة كالإدمانات بأشكالها أو الانخراط في العلاقات المؤذية والاعتمادية العاطفية.

لا آخذ شيئًا

شكل من أشكال تجليات الخزي في علاقاتنا وأحد أمارات شعورنا بعدم الاستحقاق هو أننا لا نأخذ شيئًا، لا نستطيع ببساطة أن نمد أيادينا ونلتقط شيئًا نحتاجه. وهنا أنا لا أتحدث عن الأشياء المادية؛ إنما عن الاحتياجات النفسية والرغبات التي تموت في صدورنا ولكن لا نعلنها، وتتصحر تربة أرواحنا ولكننا لا نسأل ريًّا لها! لا يمكننا أن نطلب تسديد احتياجاتنا بصراحة ونضج واعتدال.

يتخذ هذا الأمر أشكال عدة، منها مثلًا:

  1. لا يمكننا أن نطلب شيئًا طالما تعلق الأمر باحتياجنا النفسي، تعلو حينها صيحات غريبة داخلنا من ارتباط الأمر بكرامتنا واعتقاد دفين فينا يخلط بين الاحتياج وبين المهانة، ويخلط بين الطلب وبين الذل، لذا قد نبقى نعاني الألم والترقب والانتظار ولكن لا نفصح عما نريد هكذا ببساطة.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

نغفل عن تلك الحقيقة التي تقول (أن من أصول النضج النفسي التعبير عن الاحتياجات، وأنه ليس على أحد أن يتوقع ما لم نتلفظ به من احتياجاتنا).

  1. الخزي يجعلنا لا نقبل المدح أو الثناء، بل ربما نرفضه باسم التواضع أو الزهد، ويكون ردنا على كل كلمة شكر أو مدح بالهرب والفرار أو رجائنا من الآخر أن يتوقف!

المدح يخيفنا والثناء يفزعنا؛ حيث يستفزان الصوت داخلنا، الصوت الذي ينادينا: بـ"أننا زائفون"، و"أننا محتالون"، و"أن الناس لا تعرف شيئًا عن قُبحنا المستور".

المديح يدخلنا في دوامة الخزي الداخلي أكثر، ويفتح علينا كوة (عدم الجدارة)، و(عدم الاستحقاق).

لذا لا عجب أن نجد أنفسنا نحفظ الأسطوانات البالية ردًا على المديح، تارة باسم التواضع: (أنا أقل من كده)، (الجمال في عين الرائي)، (لما تعرفني أكثر مش حتقول كده)، وتارة باسم الشكر، ولكن بدلًا من أن نلتقط هذا المديح بشكل صحي ونحصل عليه ونأخذه شاكرين؛ ندفعه بعيدًا شاكرين! وألسنتنا تقول: (ربنا يجبر بخاطرك)، ولسان حالنا يقول: (لا أستحق!).

نغفل عن أن من السوية النفسية التقاط المديح المستحق، واستقبال الشكر وأخذ التقدير والاحتفاء به والفرح به والطرب له، بلا مبالغة ولا استجداء ولا تسوّل له. والمجازفة بتصديق جميل ثناء أحبتنا علينا.

إن الحق في التقدير حق إنساني أصيل لا يمكننا الاستغناء عنه، أو الترفع عليه ادعاء للزهد غير الواقعي والذي لن يكون أبدًا صادقًا.

أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين -3

للاطلاع على الجزء الأول:

https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-1/

للاطلاع على الجزء الثاني:

https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-2/

للاطلاع على الكتاب بأكمله:

https://bit.ly/3Iz5blL