مكعبات أسماء - منطقٌ في الحياة

أسماء راغب نوار | مكعبات أسماء - منطقٌ في الحياة

 

استحوذتْ علَى عقلِي فِي طفولتِي المبكرةِ لُعبةُ تركيبِ "الـ مكعبات".  وكنتُ أنزعجُ إلى حدِّ البكاءِ أحيانًا إذا تَاهَ في بيتِنَا أحدُ هذِهِ المكعباتِ إلَى أنْ أعثُرَ عليهِ وأرَى الصورةَ كاملةً بعدَمَا أقومُ بتركيبِها بكلِّ صُورِها المُتاحَةِ. فقدْ كانَ يمثلُ لي سعادةً كبيرةً تُنعشُ روحِي وترتاحُ لهَا نفسِي أنْ أُجمِّعَ أجزاءً متفرقةً وآتيَ بصورةٍ مكتملةٍ. أستطيعُ وصفَهَا بالدخولِ في تفاصيلِهَا. وقدْ كانتْ عادَتِي منذُ طفولتِي التعرُّفَ إلى حقائقِ الأمورِ. بلْ كانتْ بالنسبةِ لي غريزةً في خِلقَتِي أوْ فطرةً جَبَلنِي عليهَا اللهُ فلمْ يكنْ لِي فيهَا حيلةٌ أو اختيارٌ.

وقدْ ظلَّ مفهومُ المكعَّباتِ يلاحقُنِي منذُ الطفولةِ المبكرةِ إلى يومِي هذا، لدرجةِ الإرهاقِ والتعبِ أحيانًا، والنشوةِ والسعادةِ أحيانًا أخرى. الإرهاقُ والتعبُ نتيجةَ البحثِ عنِ المكعَّباتِ الغائبةِ عنْ عينَيَّ ثمَّ التفكيرِ في طريقةِ تركيبِهَا على نحوٍ علميٍّ ومنطقيٍّ. والنشوةُ والسعادةُ بالوصولِ إلى صورةٍ كاملةٍ عنْ مفهومٍ شَغَلَ رأسِي أو شخصٍ استوقَفَني. وتسلَّلَ مفهومُ المكعباتِ إلى مختلفِ شئونِ حياتِي وأنشطتِهَا. فقدْ هيْمنَ على رأسِي عندَمَا أحببتُ القراءةَ والاطِّلاعَ. فأصبحتُ أعتبرُ الكتبَ أشبهَ بقِطعِ المكعباتِ التي منْ شأنِي أنْ أجتهدَ لأُرتِّبَها ومنْ ثَمَّ أصلُ إلى وجهةِ نَظرِي الخاصَّةِ.

ولمْ يدعْنِي منطقُ المكعباتِ حتَّى عندَ التعرفِ إلى الناسِ. فالإنسانُ بالنسبةِ لي مجموعةٌ منْ قِطعِ المكعباتِ التي تَئُولُ في النهايةِ إلى ما يُعرَفُ بهِ بينَ الناسِ. فرُدُودُ أفعالِهِ ومعاملاتُهِ وكلامُهِ وتصرفاتُهِ وخلفيتُهِ الاجتماعيةُ ما هيَ إلا مجموعةٌ مِنَ المكعباتِ التي يتوجبُ عليَّ أنْ أُفكرَ مَليًّا فيها عندَ تجميعِهَا لتكوينِ انطباعٍ عنهُ بناءً على الصورةِ التي تشكَّلتْ بعدَ التركيبِ والتجميعِ. فأتصرفَ معهُ وألتمسَ الأعذارَ منْ مُنطلقِها.

وكذلك انسحبَ منطقُ المكعباتِ على تعليمِي ودراستِي فلمْ يَفُتْنِي التعبُ الذي يقترنُ بهِ ولا السعادةُ التي تنتابُنِي بسبَبِهِ في الوقتِ نفسِهِ. فكانَت إذا لفتَتِ انتباهِي فكرةٌ في منهجِي الدراسيِّ تستوقفُنِي فأتامَّلُها بعمقٍ لدرجةٍ تشغلُنِي عنْ بقيةِ المنهجِ الدراسيِّ. فأظلُّ أبحثُ طَوالَ الوقتِ عنْ مُكعبٍ آخرَ وثالثٍ ورابعٍ وخامسٍ وعاشر، منْ داخلِ المنهجِ وخارجِهِ.. منْ بيتِنا وما يجري فيهِ.. منْ أبي وأمِّي وإخوتي وجَدَّتِي وما يقولونَ ويفعلونَ.. منَ الشارعِ وما أشاهدُه.. منَ المُعلِّمِ وما يقولُ.. وممَّا أقرأُ في كُتبِي الخاصَّةِ، حتَّى أصلَ إلى صورةٍ كاملةٍ تسعدُني، وبِهَا يستريحُ عقلِي ويهنأُ بهُدنةٍ استعدادًا لتركيبِ فكرةٍ أُخرَى.

وأذكرُ مثالًا على انسحابِ مبدأِ المكعَّباتِ علَى دراستِي أننِي درستُ وأنَا في التاسعةِ منْ عُمري درسًا في القراءةِ بعنوانِ "إنَّ اللهَ يرانا" كان يتحدثُ عنْ أنَّ بائعةً لِلَّبنِ في عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ كانتْ تخلطُ اللبنَ بالماءِ بعيدًا عنْ عينِي عُمرَ. فأنكرتْ ابنتُها عليهَا ذلكَ قائلةً: " يا أُمَّاه: كيفَ لوْ رآنَا عُمرُ؟! فأجابتْها: وأين عُمرُ الآنَ؟ فقالتْ: إذا كانَ عمرُ لَا يرانا فإنَّ اللهَ يَرَانا". لقدِ استوقفَتْنِي هذِهِ العبارةُ لسنواتٍ. وصارَ عقلِي أسيرًا لمفهومِ خشيةِ اللهِ. فصرتُ أُراقبُ نموَّ البَذرةِ التي وضعَهَا درسُ القراءةِ في نفسِي حتَّى أَضحَى مبدأُ "إنَّ اللهَ يرانا" يكبَرُ ويترعرعُ فيَّ إلى أنْ أصبحَ شجرةً كبيرةً وارفةً أستظلُّ بهَا. فأمارسُ تحتَها شتَّى شئونِ حياتِي منْ تفكيرٍ وتصرفاتٍ ومعاملاتٍ.

وحتَّى في المِحنِ على مَدَى حياتِي كانَ للمكعباتِ دورٌ. فأنَا منَ المؤمنينَ بأنَّ الإنسانَ لمْ يُترَكْ سُدًى. لكنْ لهُ ربٌّ يرعاهُ ويُرشِدُه إذا طلبَ منهُ العونَ ولمْ يتعلَّقْ إلَّا بِهِ. فَمَا مِحَني إلَّا مجموعةٌ منَ المكعباتِ الَّتي يتوجبُ عليَّ أنْ أسعَى وأجتهدَ في التوصلِ إلى مرادِ اللهِ – الذي ابتلانِي بِهَا – لأستقيَ العبرَ والدروسَ المستفادةَ منهَا. وبمفهومِ المكعباتِ أيضًا كنتُ ولَا أزالُ أحاولُ محوَ أيِّ مظهرٍ منْ مظاهرِ العشوائيةِ فِي حياتِي إذَا الْتبسَ شعورِي أو تشوَّشَ عقلِي.

وساعدَنِي مفهومُ المكعباتِ في الوصولِ إلى أنَّ المطلقَ الوحيدَ هو اللهُ، وما دونَهُ قابلٌ للأخذِ والردِّ إِلَّا ما أنزلَ على رسولِهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ) أو وردَ عنهُ، وبِهِ وجهتُ نفسي للانتصارِ للحقِّ وليسَ للرأيِ، ورفعتُ عنْ عقلِي الوصايةَ فاستقلَّ رأيِي. أَفلَا تستحقُّ المكعباتُ منِّي إذن أنْ أُخصصَ لَهَا مقالًا يتصدَّرُ مدوَّنتِي؟!