إسلام بلا مذاهب - الإسلام يكرم المرأة
الإسلام يكرم المرأة:
لم يكن للمرأة شيء أو بعض شيء من الكيان أو الكرامة أو الحقوق قبل الإسلام، فماذا أسدى الإسلام إليها؟ لقد خصّها بالتكريم وأحاطها بالإجلال وشملها بالرعاية وبوأها المكانة الجديرة بها كأم وابنة وأخت وزوجة وعمة وخالة على ما بينا في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي أوردناها في مستهل هذا الباب، ولكن ذلك الذي ذكرنا كان من باب الإجمال وليس من قبيل التفصيل، فإذا أردنا أن نفصل المكانة التي هيأها الإسلام للمرأة، والالتزامات التي حددها قبلها وجدناها من الكثرة بمكان، فقد كانت محرومة من كل شيء، فوهبها كل ما حرمت منه، وأعاد إليها ما هو حق لها منذ الأزل كمخلوق كريم، تلد الأطفال، وتربى الرجال، وتمنح الحنان، وتسهم في خلق السعادة في المجتمع، وتؤدي وظيفة سامية، وتكوّن نصف الكيان البشري.
لم تكن المرأة ترث في أي مجتمع قبل المجتمع الإسلامي، فجعل الإسلام توريثها إلزاميًّا في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْكَثُرَ نَصِيبًا﴾، النساء: 7.
وبعد أن يحتّم القرآن حق النساء في ميراث الوالدين والأقربين، يعمد الكتاب العزيز إلى تخصيص الأنصبة تخصيصًا عادلاً في الآية الكريمة: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِ كُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، النساء: 11.
وإذن فقد أوجب الإسلام للمرأة الحق في أن ترث، والحكمة تشريعية اجتماعية سامية جعل لها نصف ما للذكر، وليس ذلك حطًّا من شأنها ولا تقليلاً من قيمتها، وإنما لأنها حين تأخذ النصف من ميراث أبيها، فإنها تترك لإخوتها الذكور الأكثر التزامًا منها بتكاليف الحياة ما يعينهم على الحياة نفسها، وفى نفس الوقت يتمتع زوجها بنفس الميزة بالقياس إلى زوجته، فكأنها قد تركت النصف لزوجة أخيها، وكأن زوجة أخيها قد تركت النصف لها، وهكذا تستمر الدورة فى نطاق الأسرة وأنسبائها وأصهارها، ولعل ذلك هو أبلغ رد على بعض الذين طلبوا المساواة المطلقة في الميراث بين الرجل والمرأة، ولو طبق ذلك لانتفت الفكرة العادلة في التوزيع الإلهي للميراث.
ولقد جعل الإسلام الصداق حقًا للمرأة دون أهلها، وكان الصداق قبل ذلك يعطى لأهلها دونها، وقد حرص الإسلام في هذا المقام أيضًا على أن تكون علاقة الزوج بالزوجة قائمة على المعروف، وإذا حدث طلاق فليحدث في حدود تكريمها وعدم امتهانها، والآية الكريمة تقول: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَ اتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، البقرة: 229.
وهكذا يكون الصداق حقًّا خالصًا للمرأة.
ثم يركز الكتاب العزيز على التسريح بإحسان في حال الطلاق في آيات متعددة، متفرقة حينًا، ومتتالية حينًا آخر، وما ذلك إلا حفاظًا على آدمية المرأة، وتزكية لكيانها، وصونًا لشخصيتها. قال تعالى:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِحُوهُنَّ بِمَعْرُوفِ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ صِرَارًا لِنَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، البقرة: 231.
ولقد حافظ الإسلام للفتاة على شخصيتها فيما يتصل بزواجها، وجعل لها حقًّا مطلقًا في رفض الزوج الذي يفرضه عليها أهلها فيما لو كانت غير راغبة فيه لسبب معقول، فقد شكت فتاة إلى الرسول ﷺ أن أباها زوجها من ابن أخيه دون رغبة منها، ففوّضها الرسول ﷺ في شأنها فيما لو أرادت الانفصال عنه.
ولم يقف الأمر بالإسلام في نطاق تكريم المرأة ورفع شأنها ومنحها حقوقها الآدمية عند تلك الحدود التي ذكرنا، بل إن الشريعة الإسلامية لأول مرة في التاريخ خولت للمرأة الراشدة جميع الحقوق المدنية المتصلة بأملاكها، فقد منحتها كامل حريتها في أن تدير شئونها بنفسها من مال وأملاك وتجارة وزراعة، ويدخل في ذلك حرية التصرف في مهرها إن كانت متزوجة، وفى هذا النطاق خَوَّل لها أن تعقد عامة العقود المدنية، من بيع وشراء وإيجار واستئجار وشركة ورهن وهبة ووصية إلى غير ذلك من الشئون الشخصية التي تعرض للمرء في حياته، وحق المرأة هذا قد صانه لها القرآن الكريم في قول الله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا﴾، النساء: 6.
وإذن فقد حفظ الإسلام للمرأة حق التصرف فى مالها تصرفًا كاملًا، وإن كانت العلاقة الزوجية القائمة على الثقة كثيرًا ما تدفع بالمرأة إلى أن تكل أمرها في إدارة شئونها المالية لزوجها، لما تحتاجه هذه من متاعب قد لا تؤهلها طبيعتها في كثير من الأحيان للنهوض بها كاملة.
والقرآن الكريم بعد ذلك كله، وهو كتاب هذا الدين، قد كرم المرأة في أكثر من مقام، حيث قرنها بالرجل في آيات التبشير بحسن الجزاء، والحض على الخير، والنهى عن المنكر، كما في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَا جَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾، آل عمران: 195.
فإذا كانت طبيعة رسالة الإسلام تنسحب بداهة على الرجل والمرأة على حد سواء، والخطاب عن المجموع يكون بالحديث عن المذكر كما جرت بذلك تقاليد الإنشاء البياني، فإن القرآن الكريم حينما يعمد إلى التخصيص بذكر الذكر والأنثى معًا، إنما استهدف قصدًا معينا بذاته، وهو تكريم المرأة لدورها العظيم في نطاق الآية السابقة، في الهجرة، والتعرض للأذى والبلاء في القتال والاستشهاد، ومن المعروف أن أكثر من شهيدة في ظل العقيدة قد لقيت حتفها على يد كفار مكة.
والكتاب العزيز مرة أخرى يذكر الذكر والأنثى من الناس في مقام فعل الخير، وتبشير كل من الجنسين بأحسن الجزاء، وفى ذلك لفتة كريمة للمرأة، وتذكير لها بأنها في رحاب الثواب الإلهي طالما كانت أهلاً للثواب، وإن ذكر الثواب مطلقاً يشملها، ولكن الله سبحانه وتعالى يخصها بالذكر حضًّا لها على فعل الخير، وإظهارًا لشخصيتها، وتكريمًا لوجودها، بعد أن لقيت الكثير من العنت في عهد الشرك، والشديد من الظلم في عصر الجهالات، والمرهق من العسف في زمان الضلالات، ومن ثم كان وعدها بحسن الجزاء والحياة الطيبة متى صنعت الخير وعدًا من الله مباشرًا واضحًا، وذلك في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤِمنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، النحل: 67.
وحين يعدد القرآن الكريم الصفات الضرورية للمسلم المؤمن - من قنوت وصدق وصبر وخشوع وتصدق وصيام وعفة ودوام ذكر الله - فقد اقتضت حكمة الله وعدالته أن يعد أصحاب هذه الصفات بالمغفرة والأجر العظيم، يستوى في ذلك الرجال والنساء، فذكرت الآية الكريمة في مقام الغفران والأجر العظيم كل جنس بصفته، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، الأحزاب: 35.
لقد كرم الإسلام إذن المرأة في كتابه الكريم، وقرنها بالرجل في كل مجالات الخير، وخصها معه بالذكر في كل ميادين العمل والتضحية والإيمان، وأبرز وعد الله لها بالثواب والجنة، كل ذلك لإضفاء صفة الأهمية على شخصها، والتكريم على مكانها ومكانتها.
وحتى لا يتطرق الظن إلى بعض العقول أن ذلك الذكر للمرأة - تخصيصًا - فيه شيء من المحاباة لها - تعالى الله سبحانه عن ذلك - فقد قرن القرآن الكريم - عدالة منه ونصفة- ذكر المرأة بالرجل في مقام توجيه النصح والأمر بالتزام جادة الأمور، حيث لا يخلو الخطاب القرآني أحيانًا من شدة اقتضتها الضرورة، وحزم دفع إليه السياق، وزجر أملاه الموقف، وهنا يكون التوجيه القرآني لكل من الجنسين على حدة، وذلك في قوله تعالى : ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَ بِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَا بِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَا بِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، النور: 30:31.
ونظرًا لما لمركز المرأة من دقة بحكم تكوينها الأنثوي فقد عمدت الآية الكريمة إلى التنبيه مع التفصيل الذى يصل إلى حدود الشمول، وبذلك تتحقق المساواة النوعية بين الرجل والمرأة في هذا المقام ولم يقف الأمر بالكتاب العزيز في مقام قرنها بالرجل عند الثواب المرتقب أو التوجيه المتطلب وحسب، وإنما عمد إلى ذلك أيضًا في مقام القصاص من الجرائم التي يقترفها أي من الجنسين ، قال تعالى: ﴿والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَأَقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا حَزَاءً بِمَا كَسَبَا إِنَّكَلًا مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، المائدة: 38.
وقال- عزّ من قائل:
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذُكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، النور: 2.
فالقرآن الكريم إذن بسط الأضواء على مكانة المرأة، وقرنها بالرجل حيث ينبغي الاقتران في مواقف التمجيد والثواب، وفى مناسبات التنبيه والتحذير، وفي أحكام القصاص والعقاب.
والإسلام جعل منها كائنًا مكرمًا حفظ لها حقوقها قبل الرجال، ومنحها حرية كاملة في ولايتها على ممتلكاتها وأموالها، ويسر لها حق الاختيار والرفض في الزواج، وحق الصداق عند الطلاق، وضمن لها حقها المشروع في الميراث، وأكرمها الرسول بأمر ربه، فجعل الجنة تحت أقدام الأمهات، وأخيرًا فإن أعظم الحقوق الشرعية التي كسبتها المرأة من القرآن الكريم لأول مرة - حسب تعبير العقاد - أنه رفع عنها لعنة الخطيئة الأبدية ووصمة الجسد المرذول.
كان من الطبيعي والأمر كذلك أن يلتمع للمرأة المسلمة نجم، وأن يرتفع لها شأن، وأن يعظم لها أمر، وأن تسمو لها مكانة، وأن تبرز لها شخصية فتفتى المسلمين في أمور دينهم، كما فعلت السيدة عائشة وبعض أمهات المؤمنين، وتجابه الخلفاء، ويعلو رأيها أحيانًا على آرائهم، كما فعلت امرأة مسلمة مع أعظم خلفاء المسلمين فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وخاضت المعارك الحربية قولًا وعملًا في سبيل المبدأ، كما فعلت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية فى معركة صفين، وهي تدفع أخاها لخوض المعركة في صف أمير المؤمنين على مؤلبة إياه على معاوية.
واللاتي لم يكن يقلن الشعر من النساء المسلمات يذكين به نار المعارك كن يمتطين صهوات الجمال خطيبات حاضّات على القتال بأبلغ بيان، وكانت خطبهن تحفظ كما كان شعر الأخريات يردد، إن من هؤلاء الخطيبات الزرقاء ابنة عدى الهمدانية، واحدة من أبطال صفين في جيش على، إن معاوية وقد استقر تحته كرسى الحكم يجلس بين صحبته من بني أمية يتذاكرون أمور حربهم مع بني هاشم، فيذكر بعضهم الزرقاء بنت عدى فيقول معاوية: من منكم يذكر كلامها؟ فيقول عديد من الجمع: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين، فيقول معاوية: فأشيروا علىّ في أمرها، فيشير بعضهم بقتلها، وهنا يمكن أن نتصور خطورة الدور الذي أدته هذه المرأة في ميدان القتال، حيث إن بعض رجال بني أمية يشيرون بقتلها بعد أن استقر الأمر لهم ولم تعد تشكل خطرًا عليهم، ولكن معاوية بما عُرف عنه من عقل وحلم وكياسة يقول: بئس الرأي أشرتم به علىّ، أيحسن بمثلى أن يقتل امرأة بعد ما ظفر بها؟! ولكن الرغبة في استكشاف طبيعة العدو الذي غُلب، تدفع معاوية إلى أن يبعث إلى واليه على الكوفة لكي يبعث إليه بالزرقاء، فما إن تصل إلى دمشق حتى يقول لها - وهنا يغنينا حديث معاوية عن وصف طبيعة الدور الذي لعبته الزرقاء في القتال: ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين يوم صفين تحضين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ فتجيب والحكمة ملء برديها في غير ما خوف ولا تردد، ولكن في تعقل وثبات: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر. قال لها معاوية: صدقت، أتحفظين كلامك يوم صفين، قالت: لا والله، لا أحفظه لقد أنسيته، وهنا يقول معاوية: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين... ويمضى معاوية مرددًا خطبة الزرقاء في ميدان الحرب، كلامها يفجر الدماء، ومنطقها يطيح برقاب الأعداء، ومعانيها تؤجج النيران في النفوس، فتجعل المحاربين من رجالها يخوضون بحار النجيع إلى أذقانهم، فلنستمع إلى معاوية يرجع ما قد بقى عالقًا بحافظته من خطاب الزرقاء:
﴿أيها الناس: ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيالها فتنة عمياء، صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، أيها الناس: إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، ودفع الحق باطله، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنّى ﴿ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً﴾. ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجل الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، ﴿والصبر خيرًا في الأمور عواقبا إيهًا في الحرب قدمًا غير ناكصين ولا متشابكين﴾.
وهذه عكرشة بنت الأطرش إحدى النساء اللاتي استرددن أنفسهن في ظلال الإسلام، كانت متقلدة حمائل السيف بصفين، وتدعو الرجال للقتال وهي واقفة أمامهم في مواجهة عدوهم الأموي، تعدهم بالنصر أو الجنة قائلة في أبلغ عبارة: « إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم، مستظهرين بالصبر في طلب حقوقهم، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غُلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، الله الله عباد الله في دين الله، وإياكم والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفىء نور الحق، هذه بدر الصغرى، والعقبة الكبرى. يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غذا لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة، تصقع صقع البقر وتروث روث العتاق﴾.
إن الأمثلة على مشاركة المرأة في الشئون العامة وفى المعارك الحربية والخلافات الحزبية من الكثرة بمكان، وكل مثال أبلغ من سابقه، لقد حررها الإسلام أولًا ثم سنمها مكانتها الحقيقية، فأدت دورها بأكمل ما يمكن أن يؤدى من كمال، وأسهمت بجهودها قولًا وفكرًا وعملاً وتطبيقًا، وحاربت وحاجّت وشعرت وخطبت، وواجهت الخلفاء والملوك بالقول الساطع والبيان الوضاح، ولكن هناك أثر رائع للإسلام في نفوس النساء حين حول المرأة من مجرد أنثى تنوح وتبكى إلى إنسان كريم يعتبر ويضحى خدمة لإنسانيته وفداء لعقيدته، ولعل المثال الذى يمكن أن يتمثل في هذا المقام أحسن تمثل هو شخصية امرأة عربية في الجاهلية والإسلام ، وكانت ذات شهرة في هاتين الفترتين من الزمان ، ولكن شتان الفرق بين صفتها في الجاهلية وصفتها في الإسلام ، كانت في الجاهلية بكاءة نواحة، شعرها يفيض دموعًا، وينضح شجنًا، فلما جاء الإسلام علمها كيف تستعصى دموعها على أقرب الناس إليها إذا ما قضوا في سبيل عقيدة أو استشهدوا في سبيل مبدأ، لعلنا قد عرفنا هذه المرأة الآن، إنها تماضر بنت عمرو بن الشريد التي عرفت باسم "الخنساء"، لقد كان للخنساء في الجاهلية أخ فارس شجاع، كريم، جليل القدر، هو صخر بن عمرو، وكان بارًا بها كل البر، مكرمًا لها كل الإكرام، يقتسم معها ماله كلما حلت بها ضائقة، فلما مات بكته بالقصائد الطوال والأبيات البليغة التي حملت من المعاني ما جعلتها تعيش في خواطر الناس مئات عديدة من السنين، وعرفت الخنساء حتى الآن بالشاعرة البكاءة، لقد قالت في رثاء أخيها وبكائه ديوان شعر كاملاً، ويجيء الإسلام مبشرًا بالخير، شاملاً البشر من رجال وإناث بالتكريم الذي أعاد إليهم إنسانيتهم في ظل من العقيدة وسياج من الاقتناع، وتبدأ حركة الفتوح الإسلامية، ويتوقف مصير الانسياب الإسلامي للجيوش العربية الإسلامية على معركة القادسية، وتلاحظ الخنساء معارك الفتوح مع من يلاحظ من رجال المسلمين ونسائهم، ولها أربعة من الأولاد الشباب الأقربين كل القرب إلى قلبها، قربًا يتضاءل أمامه قرب صخر، فذاك أخوها وهؤلاء بنوها، فتصحبهم على كبرها إلى ساحة القتال، وتدفع بهم إلى أتونها انتصارًا لعقيدتها، واستجابة لإسلامها، ووقفت تخطبهم حاضّة مشجعة قائلة:
﴿يا بني أنتم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم أبناء امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾". فإذا أصبحتم غدًا فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، ولله على أعدائه مستنصرين﴾، آل عمران: 200.
وتبدأ رحى القتال، وينطلق الفرسان الفتيان إلى أتون المعركة ينشدون الأراجيز، يقاتلون ويتقدمون ثم يستشهدون الواحد بعد الآخر، ويبلغ الخبر الحزين أمهم الخنساء، فلا تبكى على بنيها كما بكت على خالٍ لهم من قبل، وإنما تقول من تحت ظلال الإيمان: «الحمد لله الذي شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعني بهم في مستقر رحمته﴾.
إن الفرق بين المرأة قبل الإسلام وبعده هو نفسه الفرق بين شخصية الخنساء قبل الإسلام وبعده.
لقد أخذ الإسلام بيد المرأة وكرّمها وزكاها، ومنحها كل ما هي أهل له كنصف للبشرية، وكأم وأخت وزوجة وابنة، فإذا حدثت بعد ذلك نكسة فليس الإسلام هو الذي نكسها، ولكن الأوضاع الاجتماعية والانفلات عن الجادة واستحداث التقاليد من رجعية جامدة أو انطلاقية منحرفة كل ذلك - وليس الإسلام - مسئول عن الردة وملوم على النكسة.
للاطلاع على المزيد:
https://asmaanawar.psee.io/6lz8pb
https://asmaanawar.psee.io/6lz8ne
https://asmaanawar.psee.io/6lz8nq