إسلام بلا مذاهب - أحزاب الخوارج وعقيدتهم
أحزاب الخوارج وعقيدتهم
انقسم الخوارج إلى أحزاب كثيرة متعددة، ولقد اخترنا لفظ "حزب"، ولم نختر لفظ "فرقة" لما قد تقمصته كلمة حزب من الدلالة على المعنى السياسي أكثر منها دلالة على المعنى الديني.
إن مذهب الخوارج كان فكرة سياسية خالصة، فقد كانوا يرون أن الخلافة لا ينبغي أن تنحصر في قوم بعينهم، بل إن كل مسلم صالح للخلافة مادام قد توافرت فيه شروطها من إيمان وعلم واستقامة، على شريطة أن يبايع بها، ولا بأس بعد ذلك في أن يكون من الفرس، أو الترك، أو الحبش، فالمعنى العصبي الأرستقراطي بعيد عن تفكيرهم، بل عدو لمنهجهم ومسلكهم، واقتصار الخلافة على جنس بعينه - كالجنس العربي - أمر يحاربونه كل المحاربة.
وبرغم أن الخوارج قد حاربوا عليًّا وخرجوا عليه، فإن له فيهم - وهو الإمام المنصف - كلمة حق حين قال في آخر أيامه: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه". وأمير المؤمنين يشير بذلك إلى أن الخوارج أشرف في قصدهم من بني أمية، لأن الأمويين اغتصبوا الخلافة اغتصابًا بغير حق، ثم ما لبثوا أن حولوها إلى ملك عضوض، الأمر الذي يتنافى مع الإسلام نصًا وروحًا، وأما الخوارج فكانوا يدافعون عن عقيدة دينية آمنوا بها وإن أخطأوا السبيل إليها.
وإن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يؤيد رأي الخليفة الرابع في حسن الظن بهم حينما قال لبعضهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا أو متاع، ولكنكم أردتم الآخرة، فأخطأتم سبيلها.
ولكن الذي أفسد على الخوارج دعوتهم هو سفكهم الدماء، وبخاصة دماء المسلمين من مخالفيهم في الرأي، لقد كان دم المسلم عندهم أرخص من دم غير المسلم، وقد مر بنا قبل قليل قصتهم مع مسلم مخالف لهم ونصراني، فقتلوا المسلم وحفظوا على النصراني دمه. ومن الأخبار المأثورة، التي تؤيد هذا الرأي فيهم، أعني تعطشهم لدماء مخالفيهم من المسلمين والعفو عن غير المسلمين، أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة وقع في أيديهم مرة فادعى أنه غير مسلم، وكانت وجهة نظره أن ذلك أدعى للحفاظ على حياته مما لو عرف عنه أنه مسلم مخالف لهم، وقد صح ما توقعه، فقد كان ادعاؤه الشرك سببًا في نجاته منهم.
كان أمرًا طبيعيًا أن ينقسم الخوارج على أنفسهم في الوسائل التي يتبعونها لكي يصلوا إلى أهدافهم السياسية في الحكم، وكان الانقسام في الرأي سبباً في الخلاف الشديد بينهم، غير أن هذا الخلاف الفكري السياسي ما لبث أيضًا أن دفع بهم إلى خلاف عقائدي في صلب الدين، فمزجوا الدين بالسياسة، وخلطوا بين الحكم والعقيدة، ولكنهم بمختلف أحزابهم قد أجمعوا على أمرين جوهريين: الأمر الأول يتعلق بنظرية الخلافة، وتتلخص في أن الخليفة يختار اختيارًا حرًا من بين المسلمين، وليس من الضروري أن يكون قرشيًا، فمن حق الحبشي مثلًا أن ينتخب متى أجمع المسلمون على انتخابه، كما أنه من حق القرشي أن ينتخب متى أجمع المسلمون على اختياره. والأمر الثاني عقائدي محض، فهم يقولون إن العمل بأوامر الدين جزء من الإيمان وليس الإيمان كله، يعني أن الذي يؤمن بالله وبالرسول وبالصلاة والصوم وأركان الإسلام الأخرى ثم يرتكب الكبيرة فهو كافر وليس مسلمًا، فلما انشعبوا إلى أحزاب عديدة أصبح لكل حزب عقائده ونظرياته الدينية.
كان الخوارج في أول أمرهم يسمون بالمحكّمة الأولى، وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وانتحوا إلى حروراء. وكان أول زعيم لهم عبدالله بن وهب الراسبي، وكان من سواد الناس، غير أنه موصوف بالشجاعة والصلابة. ومن ألمع جماعته وأصلبهم عقيدة عروة بن أدية، الذي خاض معارك عديدة، وقد لقيه زياد بن أبيه فأراد أن يستكشف كنهه، ويستظهر أمره، ويسبر غوره، ويعرف عقيدته، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال عنهما كل خير، ثم سأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحوالي بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، وشهد عليه بالكفر، ثم سأله عن علي بن أبي طالب فقال: كنت أتولاه إلى أن حكُّم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر. ثم سأله عن معاوية فسبه ولعنه، ثم سأله عن نفسه (أي عن زياد) فقال: أوَّلُكَ لريبة وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما بعد عاص ربك. فأمر زياد بضرب عنقه، وقد كان أمرًا طبيعيًا جدًّا أن يضرب زياد عنقه، لا لأنه يستحق ذلك، ولكن لأن هذه الجرأة في الرأي والصلابة في التمسك به حتى أمام ولي الأمر مالك الرقاب أمر له خطره على كيان الدولة القائمة المأخوذة بالجراح المهددة بالبوار، ويجوز أن زيادًا قتله انتقامًا لنفسه، فإن في رأي عروة إشارة إلى مولد زياد من سفاح، وقد كان زياد جبارًّا ذا بطش وعنف.
هذا ما كان من أمر المحكّمة الأولى من الخوارج، ثم انقسموا بعد ذلك إلى أحزاب عديدة أهمها: الأزارقة، والنجدات، والبيهسية، والعجاردة، والثعالية، والإباضية، والصفرية، على أن هذه الأسماء إنما هي للأحزاب الرئيسية الكبرى، ولكن بعض هذه الأحزاب قد انشطر إلى أحزاب أصغر، فالعجاردة مثلًا انشطروا إلى الصلتية أصحاب عثمان بن أبي الصلت، والميمونية أصحاب ميمون بن خالد، والحمزية أصحاب حمزة بن أدرك، والخلفية أصحاب خَلَفٍ الخارجي، والأطرافية، والشعيبية، والحازمية.
والثعالية انشطروا إلى الأخنسيّة، والمعبدية، والرشيدية، والشيبانية، والمكرمية، والمعاومية، والمجهولية، والبدعية.
والإباضية انشطروا إلى الحفصية، والحارثية، واليزيدية.
تلك هي أحزاب الخوارج وشعابها، وأكثرها قد ذاب في غمرة أحداث الزمان وكر الأيام، ولم يبق منها معاصرًا لنا إلا الإباضية، ولكننا مع ذلك لن نقتصر على تقديم الإباضية وحدها، بل إن من العدل ألا تحسب من فرق الخوارج طبقًا لما سوف نوضحه في الفصل الذي خصصناه لهم بل لا بأس من أن نلم إلمامًا خفيفًا بأشهر تلك الأحزاب التي ذكرنا، وهي الأزارقة والصفرية والإباضية.
الأزارقة:
فأما الأزارقة فهم أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الذي خرج بأتباعه الذين ربوا على ثلاثين ألف فارس فاحتلوا الأهواز وفارس وكرمان، وانتصروا على عمال عبد الله بن الزبير، وكانت هذه المناطق في حدود خلافته. وكاد أن يستقر الأمر للأزارقة بعد هذه الانتصارات الضخمة إلى أن خرج لهم المهلب بن أبي صفرة فحاربهم تسع عشرة سنة حتى تغلب عليهم، وكان من ألمع الأزارقة قطرى بن الفجاءة المازني الذي من ذكره.
وكان الأزارقة غلاة في أفكارهم وأحكامهم، فكانوا يقولون إن جميع مخالفيهم من المسلمين مشركون، وإن من لا يسارع إلى دعوتهم واعتناق مذهبهم فإن دمه ودم أطفاله ونسائه حلال، وقد كفَّروا على بن أبي طالب واعتبروا قائله عبد الرحمن بن ملجم شهيدًا بطلًا، حتى إن شاعرهم قد تغنى بهذه الحادثة الكريهة فقال:
يا ضربة من منيب ما أراد بها **** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
أني لأذكـره يومــًا فأحسبــــــه **** أوفى البرية عند الله ميزانـــــــــا
والأزارقة كانوا في الجملة متطرفين، بل كانوا خطرًا على الإسلام نفسه، وتوسعوا في عداوتهم لغيرهم من المسلمين، وكفَّروهم جميعًا، وحرموا على أنفسهم الصلاة مع غيرهم من المسلمين، كما حرموا الزواج منهم وأكل ذبائحهم، وجعلوا دارهم - أى دار المسلمين - دار حرب، ثم اتسعوا في مزاعمهم فقالوا إن أطفال المشركين في النار، وفي الوقت الذي اعتبروا فيه فاعل الكبيرة كافرًا مخلدًا فى النار عطلوا بعض الحدود، بأن أسقطوا الرجم عن الزاني، كما أسقطوا الحد عمن قذف المحصنين من الرجال، وإن لم يسقطوه عن قاذف المحصنات من النساء.
الصُّفْرية:
وأما الصفرية فهم أتباع زياد بن الأصفر، وكانوا أميل إلى المسالمة من الأزارقة، كما كانوا أقرب إلى الاعتدال وأبعد عن التطرف فى أحكامهم، فلم يكفروا القاعدين عن القتال، ولم يسقطوا الرجم، ولم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم في النار، وفاعل الكبيرة عندهم عاصٍ وليس كافرًا مشركًا.
للاطلاع على المزيد:
https://asmaanawar.psee.io/6lz8pb
https://asmaanawar.psee.io/6lz8ne
https://asmaanawar.psee.io/6lz8nq
https://asmaanawar.psee.io/6m9m7j
https://asmaanawar.psee.io/6mfhrn
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://asmaanawar.psee.io/6mfkam