الاستشراق - الجزء الأول
بقلم: إدوارد سعيد
ترجمة: د. محمد عناني
عنوان الكتاب الأصلي: (Edward Said, Orientalism: Western Conceptions of the Orient, penguin 1995.
وكأنما أحس إدوارد سعيد بضرورة إيضاح موقفه وتمييزه عن مواقف معاصريه وأسلافه، فكتب مقدمة جديدة للطبعة الثانية من كتاب البدايات: المقصد والمنهج الصادر عام 1985 يفرق فيها بين ما يسميه البُنُوَّة (filiation) وبين ما يسميه الأتباع أو الانتساب (affiliation). فالبنوة عنده تعني الانتماء في خصائص معينة للتراث الأدبي والفكري بداية، وهو انتماء حتمي مثل انتماء الأبناء إلى الآباء، فالإبن لا يملك إلا أن ينتمي إلى أبويه، فهو ينحدر من نسلهما ويرث منهما صفات بيولوجية ونفسية معينة، شاء ذلك أم أبى، ولكن الاتِّباع أو الانتساب عنده يقوم على الاختيار أي على القصد والعمد، والتعارض بين هذين الطرفين (الذي يسميه تعارضًا بين قطبين أو تعارضًا ثنائيًا) يفسر عنده الخطأ الذي وقعت فيه بعض الاتجاهات في النظرية الحديثة التي تزعم أن كل إنتاج أدبي ينتمي إلى ما سبق إنتاجه من أدب وفقًا لقانون الحتمية (أي حتمية البنوة) فكأنما لا يملك الأديب ذاتًا تمكنه من إيجاد بداية جديدة لنفسه، وكأنما لا يمكن أن توجد بداية جديدة لأي شيء، فحتى لو كانت "للبدايات" جذور أو أصول فيما سبق من كتابات أو أقوال، فلا شك أن الكاتب أو الشاعر أو المفكر قادر على أن يأتي بالجديد الذي يكون "أصيلًا" وعلمًا عليه في هذه الحال، ولابد أن يعتبر هذا الحديد بدايةً من لون ما – كما سبق أن قلت.
ويطبق إدوارد سعيد نظريته المذكورة في تحليله للمستشرقين وتقسيمهم إلى فئات وفقًا لمدى "بنوتهم" لتقاليد الاستشراق ومدى اتخاذهم بداية أصيلة، حتى لو عادت بهم إلى الانتماء من زاوية أخرى. فهو لا يدين المستشرقين جميعًا، ولكنه يدين تقاليد الاستشراق باعتباره الإطار الفكري والثقافي العام الذي يندر أن يخرج عنه حتى ذوو الأصالة من الأدباء والمفكرين. فقد يتمتع أحد الأدباء بخيال خصب يدفعه دفعًا إلى التحليق في أجواء غير واقعية، استلهامًا لصور جديدة أو لأفكار مثيرة وما إلى ذلك فيجد في صورة "الشرق" التي قدمها غيره من الأدباء والباحثين "الزاد" الذي يبحث عنه، فينتفع بهذا الزاد ويضفي عليه المزيد مما يسميه كولريدج "التلوين الخيالي"، فإذا قرأ غيره ما كتب ظن أن هذه الكتابة، بسبب "أصالتها" الظاهرة – من الزاوية الأدبية الصرفة – وقوة تأثيرها الفني تقدم صورة صادقة وأمينة، فإذا تكاثرت أمثال هذه الكتابات أنشأت جوًّا أو مناخًا نفسيًّا أو فكريًّا معينًا لا يملك الباحث العلمي أن ينجو من تأثيره فيه، وإذن فنحن نرى هنا كيف "عمد" الكاتب الأول عمدًا إلى نشدان الغرابة، فتوافر في حالته "الوعي" (القائم على العمد) وتحقق بذلك جانب الاختيار، بمعنى أنه اختار ما يراه غريبًا وعجيبًا دون أن يلزمه شيء، فانتسب واعيًا إلى ذلك الجو أو المناخ، ونرى في حالة الباحث العلمي الذي ينشأ في الجو أو المناخ النفسي أو الفكري الذي أوجده غيره تحقيق جانب الانتماء (ما يسميه سعيد عنصر البنوة) فهو – مهما يخلص في عمله "العلمي" – "وليد" هذا الجو، وهو يتنفس هواءه، ويشعر، شاء أم أبى، بانتمائه إليه، وهو الانتماء الذي يكاد يكون محتومًا، وهكذا دواليك، فالصورة الأولى أو الصور الأولى التي تمثل الشرق، وهي التي رسمها أوائل المستشرقين لما رأوا فيه اختلافًا صارخًا عن حياتهم، وأطلقوا عليه صفة "الشرق" العامة، كانت تقوم على مباحث فقه اللغات "الشرقية" (السامية والهندية القديمة) وكانت تركز على الغريب والعجيب، وتلح إلحاحًا شديدًا على القِدَمِ وبعد المسافة الزمنية التي تفصل أوروبا في مطلع القرن التاسع عشر عن ذلك "الشرق" (وهي التي يؤكدها بعد المسافة الجغرافية) وقد تكون في ذاتها ذات قيمة علمية مؤكدة، ولكنها أوجدت المناخ الذي دعا المبدعين إلى اعتبارها الصورة الحقيقية الوحيدة والحاضرة أبدًا أي التي تظل على قدمها وغرابتها وثباتها وجمودها أبد الدهر، وبتكاثر من تأثر بها من المبدعين والرحالة و"الحجاج" إلى الشرق، نشأ الجو الذي أصبح لا مفر من التأثر به بعد ذلك، حتى من بين العلماء.
ويختلف الارتباط الفرنسي البريطاني بالشرق اختلافًا كميًّا وكيفيًّا – من الناحيتين التاريخية والثقافية – عن ارتباط أي دولة أوروبية أو أمريكية، وذلك حتى بزغ نجم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. والحديث عن الاستشراق إذن يعني الحديث أساسًا عن المشروع الثقافي البريطاني والفرنسي، وإن لم يكن ذلك مقصورًا عليه، وهو مشروع ذو أبعاد متفاوتة تضم من الأصقاع ما يتفاوت تفاوت الخيال نفسه، ويشمل الهند بأكملها وبلاد الشام، ونصوص الكتاب المقدس وما ورد ذكره فيها من أراض، وتجارة التوابل، والجيوش الاستعمارية والتقاليد المديدة التي أرساها المديرون الاستعماريون، والمناهج والمواد الدراسية، وأعدادًا لا تحصى من "خبراء" الشرق و"العاملين" به، وكراسي أساتذة "الشرق"، والمجموعة المنوعة والمُرَكَّبة من الأفكار الخاصة بالشرق (الاستبداد الشرقي، بهاء الشرق وروعته، ونزوعه للقسوة واللذة الحسية) والكثير من الطوائف الشرقية، والفلسفات وألوان الحكمة الشرقية التي طَوَّعها الناس لتلائم الحياة الأوروبية – ولنا أن نسترسل في هذه القائمة حتى ما تبدو لها نهاية. وما أقوله هو إن الاستشراق قد نشأ نتيجة علاقة التقارب الخاص بين فرنسا وبريطانيا من ناحية، وبين الشرق من ناحية أخرى، وكان الشرق ينحصر معناه الفعلي حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر في الهند والأراضي المذكورة في الكتاب المقدس. ومنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت لفرنسا وبريطانيا السيطرة على الشرق والاستشراق، وأما منذ انتهاء هذه الحرب فأمريكا هي التي تسيطر على الشرق وتتبع في ذلك المنهج الذي كانت تتبعه فرنسا وبريطانيا ذات يوم. وهذا التقارب الذي نلمح فيه قوة مثمرة إلى حد هائل، ولو تجلى فيه التفوق النسبي لقوة الغرب (بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا) هو الذي أخرج الكَمَّ الضخم من النصوص التي أقول إنها استشراقية.
ولكن قولي هذا ليس مطلقًا ولابد أن أذكر عددًا من الشروط المعقولة التي تحدد معناه، فمن الخطأ، أولًا وقبل كل شيء، أن نستنتج منه أن الشرق كان في جوهره فكرة أو ابتكارًا لا مقابل له في دنيا الواقع. وعندما قال دزرائيلي في روايته تانكريد إن الشرق "حياة عملية" كان يعني أن الأذكياء من الشباب في الغرب سوف يجدون أن اهتمامهم بالشرق قد تحول إلى عاطفة مشبوبة تبتلع كل ما عداها، ويجب ألا يفهم من كلامه أنه يعني أن الشرق لا يمثل إلا حياة عملية للغربيين. فلقد وُجِدَتْ (وتوجد) ثقافات وأمم تقع جغرافيا في الشرق، وكل منها له حياة وتاريخ وعادات تتسم بواقع صلب أعظم من كل ما يمكن أن يقال تعبيرًا عنه في الغرب، وهذا واضح، ولا تعتزم هذه الدراسة عن الاستشراق أن تضيف شيئًا يذكر إلى هذه الحقيقة، إلا الاعتراف بصدقها ضمنيًّا. ولكن ظاهرة الاستشراق التي أدرسها هنا ليس موضوعها مدى صدق الاستشراق في تصوير الشرق "الحقيقي"، ولكن موضوعي الرئيسي هو الاتساق الداخلي للاستشراق والأفكار التي أتى بها عن الشرق (كالقول بأن الشرق "حياة عملية") بغض النظر عن أي صدق أو كذب في تصوير الشرق "الحقيقي". والذي أرمي إليه هو أن ما يقوله دزرائيلي عن الشرق يشير بصفة أساسية إلى ذلك الاتساق المصطنع، أي إلى تلك الكوكبة المنتظمة من الأفكار باعتبارها المَعْلَمَ البارز للشرق، لا إلى مجرد وجوده إذا استخدمنا تعبير الشاعر والناقد والاس ستيفنز.
للاطلاع على المزيد:
https://asmaanawar.com/asmaa_blocks/
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
https://bit.ly/3o6NZxv